ثوّار مدهشون !
صحيفة العرب اليوم الأردنية ـ
سعود قبيلات:
هم ثوّار طارئون، ظهروا فجأة على هامش الأزمة السوريَّة، آراؤهم قاطعة حاسمة يقينيَّة وحماسيَّة؛ لكنّ حميَّتهم الثوريَّة، هذه، تقتصر على الموقف مِنْ سوريَّة فقط. ومع ذلك، فهم يتَّهمون خصومهم بالتمييز، في مواقفهم، أو، بالمصطلح السطحيّ الرديء، “الكيل بمكيالين”؛ ولا يرون أنَّهم، هم أنفسهم، يميِّزون، أيضاً، ليكيِّفوا مواقفهم، خطوة خطوة، مع الإيقاع الأمريكيّ الخليجيّ، تجاه ما يجري في سوريَّة ومصر وتونس والبحرين، وحتَّى تجاه دول أمريكا اللاتينيَّة المتحرّرة ودول البريكس وروسيا والصين؛ فيغمضون أعينهم هنا، ويفتِّحونها، جيِّداً، هناك، ويناورون، ويداورون، حسب الحاجة والضرورة. لكن مع فارق أنَّ خصومهم – بخلافهم – لا يدَّعون أنَّهم يتَّخذون مواقف متشابهة من الدول والتيَّارات السياسيَّة المختلفة أو من القضايا المتباينة.
على أيَّة حال، حين تظهر علائم الثروة، فجأة، على أحدهم، وقد أمضى عمره الطويل يشكو ضنك العيش، فإنَّ هذا، بلا شكّ، يثير الريبة، ويدعو إلى التساؤل عن مصدر ثروته؛ فما بالكم بمَنْ تظهر عليه علائم الثورة، فجأة، وقد أمضى عمره الطويل، أيضاً، يتَّبع الحكمة القائلة “امشِ الحيط الحيط”، وينسحب مِنْ كلّ جلسة تُطرح فيها موضوعات سياسيَّة واضحة (خصوصاً إذا كانت معارِضة)، وقد مرَّتْ، على البلاد والمنطقة والعالم، أحداثٌ جسام، فلم تنجح في إخراجه مِنْ قوقعته.. إلى أن اندلع الصراع في سوريَّة وحولها؛ فإذا به، فجأة، ثوريٌّ مُرّ لا يُشقُّ له غبار!
ومنذ تلك اللحظة، أصبح يتوجَّب على الجميع أنْ يتنازل عن وعيه، وفكره، وآرائه، وتجربته السياسيَّة والحياتيَّة، ليصطفّ، خلف هؤلاء الثوّار الطارئين، ويمشي، معهم، ليس الحيط الحيط؛ بل بحسب اتِّجاه البوصلة الأمريكيَّة، هاتفاً، بخفَّة: “حريَّة.. حريَّة!”، مع وسائل إعلامٍ لدولٍ يملك حُكّامُها كلَّ شيءٍ فيها (حتَّى البشر)، ولا توجد فيها دساتير أو قوانين، ولا أيّ مستوى من الحريَّات العامَّة أو الشخصيَّة! وإذا لم تقبل أنْ تجد نفسك في حلفٍ موضوعيّ (أو فعليّ) مع هؤلاء ومع بعض التيَّارات السياسيَّة التي ترتدي قناعاً دينيّاً ظلاميّاً، فأنتَ ضدّ الحريَّة والديمقراطيَّة ولا تحترم إرادة الشعب! عن أيّ حريَّة وديمقراطيَّة وشعب يتحدَّث هؤلاء؟! هذا ليس مهمّاً، عندهم، ما داموا يسندون ظهورهم إلى ماكينة إعلاميَّة وماليَّة وسياسيَّة ضخمة تمتدّ مِنْ عواصم المتروبول إلى عواصم البترول مروراً بحاملي المباخر وصكوك الغفران السياسيَّة والدينيَّة.
ولا يقتصر هذا النفاق البائس المكشوف على بعض المثقَّفين العرب الذين ظهرتْ عليهم أعراض السياسة (والثوريَّة)، فجأة، “بعد رحيل العمر”، على رأي قارئة فنجان الراحل عبد الحليم حافظ؛ بل يشمل، أيضاً، عواصم الغرب الإمبرياليّ التي تدَّعي التقدّم والتحضّر، وعواصم النفط العربيّ التي تحبس شعوبها في قفص القرون الوسطى ثمّ تهتف للحريَّة في سوريَّة. فها هم، بشكلٍ مفضوح، يحاربون الجهة نفسها في مالي، إلى حدّ إرسال قوَّات فرنسيَّة لمقاتلتها هناك، ويساندونها في سوريَّة، بالمال والسلاح والخبراء، بل ويحاولون، مراراً، استصدار قرار مِنْ مجلس الأمن يتيح لهم إرسال قوّاتهم لنصرتها هناك! ألا يدعو هذا كلَّ إنسانٍ حرٍّ ونزيه للتفكير والتأمّل؟
عام 1974 عابَ جورج مارشيه، في كتابه “التحدّي الديمقراطيّ”، على الرئيس الفرنسيّ، آنذاك، جورج بومبيدو، أنَّه استقبل، في العاصمة الفرنسيَّة، مَنْ وصفه (مارشيه) بأنَّه آخر حاكم إقطاعيّ في التاريخ؛ وكان، ذاك، حاكماً عربيّاً! فرنسا، الآن، في حلف وثيق مع أمثال ذلك الحاكم ومع مَنْ هم أكثر رجعيَّةً منه. وهذا يكشف مدى الانحطاط الذي بلغته المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة.. خصوصاً بعد محاولتها استعادة نمط الرأسماليَّة المتوحِّشة. فالتاريخ، بحسب هيغل وماركس، لا يتكرَّر إلا مرَّتين؛ الأولى على شكل مأساة والثانية على شكل ملهاة.
وبمناسبة توظيف اللغة القيميَّة الميلودراميَّة الزائفة والمبتذلة في السياسة، فإنَّ مَنْ عليه أنْ يخجل بمواقفه هو مَنْ يصطفّ (بقصد أو بغيره)، مع عواصم المتروبول، تلك، ومع العواصم القروسطويَّة والتيَّارات الظلاميَّة، ويندرج ضمن خططها وترتيباتها؛ لا مَنْ يعارض سياساتها، في كلّ مكان، ويقاومها، ويقف ضدَّها.