تموز 2006.. نقطة تحوّل في التاريخ
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
“لو جاء الكون كله، لن يستطيع استرداد الأسيرين، من دون مفاوضات غير مباشرة وعملية تبادل”.
الأمين العام – وعدنا الصادق.
تظل العودة إلى فترة حرب تموز 2006، بإعادة القراءة والنظر والتحليل أمرًا مطلوبًا، اليوم أكثر من أي يوم مضى، ليس من باب التأريخ أو استعادة أيام هي بذاتها حرب قد تفاعلت فيها العوامل والمواقف لأطراف الصراع لتصنع فترة من أكثر فترات التاريخ العربي خصوبة وحيوية، وأعظم وأمجد لحظات الأمة العربية كلها في تاريخها الحديث. وبشكل أكثر دقة، فإن قراءة واقع اليوم لا يصلح بغير استعادة لحظة الخلق الأولى وتشكيل ورسم موازين القوى وحدود أدوارها ودوائر مصالحها وتحالفاتها، وتأثير “تموز” في كل ما جرى ويجري واضح قاطع.
لماذا “تموز” بالذات إذا كان التاريخ الإنساني بمجمله عبارة عن سرد للصراعات؟ فإن الحرب كذروة عالية وقصوى للفعل هي نقطة صدام الإرادات المتعارضة، كما هي المفرق القادر على تغيير مجريات وأحداث الزمن ومنح الأمم صفحة جديدة تمامًا، الحرب قادرة على تغيير جملة الثوابت والمعطيات القائمة في وقت ما، وتستطيع أن تمنح الأمة الحية فرصة للحفر في الصخر ولو بأظافرها طريقًا جديدًا ثابتًا وعريضًا.
حرب تموز 2006 كانت نقطة تغير عندها الصراع العربي – الصهيوني، وتبدلت ملامحه، وتغيرت أدوار كل الأطراف فيه، وانقلبت به كل ما كان يعتبر ثابتًا ومبدئيًا في الصراع الوجودي العربي مع الكيان، ومع من يتبناه. البداية جاءت في خطاب سماحة السيد حسن نصر الله، عقب عملية الوعد الصادق وأسر الجنديين حين قال بنبرة صوت هادئة، حاسمة وفيها كل ثقة المؤمن، “لو جاء الكون كله، لن يستطيع استرداد الأسيرين، من دون مفاوضات غير مباشرة وعملية تبادل”، عندها وقبل أن تبدأ الحرب كان العالم العربي يستيقظ على عصر جديد، ومجيد.
ولفهم ما وقع في ذلك الصيف البعيد قبل 17 عامًا بالضبط، لا بد من الأخذ ببعض الحقائق التي كانت راسخة، في المنطقة العربية والعالم عشية انطلاق العدوان الصهيوني على لبنان، في هذا الزمن كانت الولايات المتحدة الأميركية قوة أولى ووحيدة في الكوكب، تستطيع أن تأخذ القرار، حربًا تريد إشعالها أو سلامًا ترغب في فرضه، كانت أميركا هي القوة كليّة القدرة كليّة الهيمنة والجبروت، تستطيع أن تفرض ما شاءت أنّى شاءت في أية بقعة من الأرض، ولم يكن الوضع العالمي يحمل لها أي تحد أو تهديد، الجميع يخشاها، ولا أحد يتحمل فكرة إغضاب واشنطن، ولا طرف كان يملك حلم مضاهاتها.
وحتى مع وجود قوة أخرى منافسة، كانت الولايات المتحدة هي القوة الإمبراطورية الأولى التي أثبتت إمكانية إخضاع كوكب الأرض كله لإرادة منفردة ووحيدة، قوة شيطانية لا مثيل لها ولا سابق في التاريخ، كانت ظاهرة العلو والطغيان الأميركي قادرة وواصلة وفي عز جبروتها، قوة حاكمة نافذة وحاضرة في كل قارة من قارات الدنيا، ضاغطة على كل بلد، ومحشورة في كل مكان، ومندسة في كل متر على امتداد الكوكب، أرضه ومحيطاته وسماؤه، وهي قبل كل شيء تملك وحدها وضع لائحة القيم وأختام الحق والمشروعية.
قبل ساعات من عدوان حزيران 1967، كان تهديد من الرئيس الأميركي ليندون جونسون للأنظمة العربية الرسمية قادرًا على تكبيل كل الجيوش العربية المتجمعة لقتال العدو الصهيوني، ومنحها فريسة مقيدة بلا حراك لضربة صهيونية كاسحة، سحقت كل ما كان حلمًا أو قيمة أو حتى مقدسًا، ولا تزال إلى اليوم هي أمرّ يوم عربي على الإطلاق.
وكانت موسيقى الخراب والكوارث في العراق منظورة ومجردة أمام النظام العربي الرسمي، من افتتاحية حرب الخليج الثانية في 1991، والتي كانت أول حرب في التاريخ الإنساني تنقل هول المأساة الواقعة على الشعب الشقيق تجري مباشرة وعلى الشاشات، ثم الحصار الوحشي الذي تلاها، مرورًا بالغزو وسقوط بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل 2003، والقبض على صدام حسين المختبئ في حفرة في كانون الأول من العام ذاته، وصور أطباء الجيش الأميركي يتفحصونه بذلّ، كانت كلها تضغط على أعصاب قادة الأنظمة الغريبة العارية معدومة الارتباط بشعوبها، وتذكرهم بأن مصير صدام قريب وهو قائم ومتاح لمن شذ عن الطاعة للأميركي.
كانت النتيجة الوحيدة أن النظام العربي، عشية بدء العدوان، يتفق مع الأميركي بنسبة 101%، ويرسم سياساته ومواقفه مع الترتيب والتخطيط الأميركي، ولم يتورع عبد الله بن عبد العزبز وحسني مبارك –مثلًا- عن تحميل المقاومة إثم العدوان وأرواح الأطفال الأبرياء، ولم يخجلا ولم يخجل غيرهم أن يحملا الضحية أوزار الدمار الهائل، بينما طيران العدو يمطر لبنان من السماء موتًا ودمًا.
كان النظام العربي موافقًا تمامًا ونهائيًا على أحلام جورج بوش وكونداليزا رايس، وتصورهما المعلن عن شرق أوسط”هم” الجديد، وكان لبنان هو ثمن المخاض، وعليه أن يتحمل وحده آلامه، وكانت الإذاعات العربية تعمل على مدار الساعة للتباكي بدموع التماسيح وتصوير ما يحدث على أنه “ثمن المقاومة الفادح”، وقلب الحقيقة الوحيدة بأن الحرب دفاعًا عن الدين والأرض والأهل هي أشرف قيمة وأنبل فعل، وهي تبتغي إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، إلى أنه خيار موت محتم وهلاك عاجل أكيد.
ولا يزال هذا الطرح هو عنوان الإعلام العربي، الناطق بلسان الشيطان، في كل تجربة صراع أو قرار رفض، في فلسطين ولبنان وسوريا، لا فرق، الكل يقول إنهم ضحايا قرار المقاومة، جريًا على أشهر كذبة في التاريخ الإسلامي، والتي أعيد تعبئتها وبيعها لدى الدجالين الجدد.
على الناحية الأخرى كان الكيان قبل يوم من العدوان منطلقًا كقطار لا يوقفه أحد، ولا يستطيع عقل أن يستوعب آثار إغضابه، وتتبارى الأقلام العربية -قبل الأنظمة ومعها- في تثبيت وهم أنه القوة التي لا تقهر، وأن جيشه قادر على الفتك بمن يريد في أي مكان، وأن لا عاصم من أمره إلا من استسلم أو رحم، وهي أقوال زادت حدتها وتضاعفت مع قيام الحرب العدوانية ضد لبنان.
ما فعله الكيان هو أنه وجه كل ترسانته من الأسلحة والذخيرة للفتك بالبلد، ومحاولة كسر هذا النموذج الذي يقدمه حزب الله، وإضعاف أثره لدى الشعوب العربية، ورغم الغارات المتواصلة والإمداد الأميركي الذي لم ينقطع طوال أيام الحرب، والدعم العربي الفاجر، فإنه وحتى نهاية أيام الحرب لم يتمكن العدو –للمرة الأولى- من أن يحقق هدفًا، ولو كان على سبيل الدعاية الكاذبة، للمرة الأولى أنهت فكرة “الصاروخ” العبقرية مرحلة التفوق الجوي الكاسح للعدو، وقضى الصمود الأسطوري للأبطال والمقاومين على وهم الجيش الذي لا يقهر، وقد قهر.
وفي إطار أي بحث يستهدف الخروج بنتيجة محددة من حرب تموز، فإن الحروب تحسم بتحقيق أهدافها المحددة والمرسومة مسبقًا من قبل أطرافها، تنتصر يعني ببساطة أنك أنجزت على الأرض ما أردت وأنك منعت عدوك من نيل ما كان يريد، وكان هدف حزب الله الواضح والأول هو عملية تبادل للأسرى بعد مفاوضات غير مباشرة، وقد تحقق الوعد الصادق فعلًا.
على الجانب الآخر، كان الهدف الصهيوني واضحًا ومباشرًا، كما كان يتلاقى مع الخطط الأميركية والرغبات العربية المكتومة، في سحق المقاومة وكسرها، وجعلها الدرس الذي لا ينسى للشعوب العربية كلما ألمت بها فكرة النهوض والرفض، وكانت النتيجة المحققة –والرسمية- في الكيان هي خلاصة ما انتهى إليه تقرير “فينوغراد”، الذي ذكر كلمة “فشل” في التحقيقات التي تلت حرب تموز “156 مرة”، لتطيح بالحكومة ورئيسها إيهود أولمرت إلى مزابل النسيان.