تعميم 159: بداية الاستيلاء على دولار التحويلات
موقع العهد الإخباري-
د. محمود جباعي:
بعد انخفاض كمية الدولارات الموجودة عند المصرف المركزي وفي ظل حاجته الملحة والمتزايدة لها للاستمرار بتمويل حاجات الدولة المختلفة، يبدو أن مصرف لبنان قرر الاستفادة مرّة جديدة من التحويلات الخارجية. والأمر غير مستغرب فسابقًا قام سلامة بخطوة مماثلة عندما أجبر شركات التحويل وأعطى إيعازًا للمصارف باستبدال الأموال المحولة بالعملات الأجنبية بالليرة اللبنانية على سعر محدد من قبله. واليوم بدأ بالرجوع الى هذه الخطوة، بداية من خلال التعميم 159 الذي ينص على السماح للمصارف باستبدال العملة الأجنبية بالمحلية على سعر السوق شرط موافقة الزبون بعد أن ألزم هذه المصارف بعدم تأمين حاجاتها من الدولار من السوق المحلي، وهذا اعتراف منه بما كان يتداول من أن المصارف هي أحد أبرز أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار بسبب سحبها لكميات كبيرة منه عند صدور تعاميم سابقة تلزمهم بزيادة رأس مالهم بالعملات الأجنبية لتأمين أصول المراسلة الخارجية.
ومن المتوقع أن يدعم المصرف المركزي موقف هذه المصارف ويحافظ على التدفقات النقدية اليها من الخارج والتي تقدر بمليار دولار سنويًا، ولكي يضمن عدم تحول هذه التدفقات الى شركات تحويل الأموال التي ما زالت تسدد التحويلات بالدولار نقدًا، من المنتظر أن يصدر المركزي تعميمًا جديدًا يلزم فيه الشركات بالتسديد بالليرة على سعر منصة صيرفة أو مناصفة بين الليرة والدولار، وهو بهذه الحالة يقوم بتقوية موقف المصارف على حساب شركات الأموال في هذا المجال. ولكن بكلتا الحالتين سيؤدي ذلك حتمًا الى تراجع حجم التحويلات الى البلد بنسبة كبيرة، وبذلك، نعود إلى التجربة السابقة من العام الماضي وتحديدًا في 17 نيسان عام 2020 عندما ألزم شركات التحويل بالدفع حسب منصة 3900 للدولار مما أدى إلى تراجع التحويلات بنسبة تقدر بحوالي 80 بالمئة عما كانت عليه.
الواضح أن هذه الإجراءات تهدف الى استفراد المصرف المركزي بالسوق الموازية وتحكمه بها لتأمين حاجات المستوردين من الدولارات وخاصةً بعد الرفع الكلي للدعم لأنه من المعلوم أن الشركات المستوردة تحتاج إلى مبالغ كبيرة بالدولار لتمويل عملية الاستيراد، وبهذه الحالة حسب اعتقاد المركزي سيتمكن من السيطرة على سعر صرف الدولار في السوق ويحد من ارتفاعه عن السعر المحدد من قبله على منصة صيرفة.
لكن الواقع النقدي المنتظر من هذه الاجراءات ليس كما يتوقعه مصرف لبنان، بل سيزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة لسعر الصرف كما كان يحصل بعد كل تعميم يصدر عنه ويهدف إلى ضبط السوق، وهذا ما لحظناه بعد التعاميم 151 و154 و158 وبعد المنصات المختلفة على مدى السنتين الماضيتين. لأن الطريقة العملية لضبط سعر صرف الدولار في السوق لا تتم بهذا الأسلوب أو الإجراءات، ومثال على ذلك عندما كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة 12500 لجأ مصرف لبنان الى منصة صيرفة على سعر 12000 وخصصها فقط لبيع الدولارات ولم يخصصها للبيع والشراء لجذب الدولار الى القطاع المصرفي مما أدى الى مزيد من التدهور في العملة الوطنية وكذلك القرار السابق بتحويل الدفقات المالية الخارجية من دولار إلى ليرة ساهم في وصول سعر صرف الدولار الى 10000 ليرة مقابل الليرة بعد أن كان حوالي 5000 مقابل الليرة.
بناء على كل ما تقدم، هذه العشوائية في التعاميم والإجراءات غير المبنية على تخطيط سليم وبنيوي ستساهم حتمًا في المزيد من التدهور للعملة الوطنية مقابل الدولار، وما التعميم 159 إلا استكمال لهذه السياسة النقدية الخاطئة في معالجة الأزمة علمًا أن الحل الأساسي لضبط سعر الدولار يكمن ومن دون مواربة في إعادة أموال المودعين تدريجيًا بالعملات الأجنبية مع كابيتال كونترول منظم وليس كما حصل في التعميم 158 الذي اعتمد الاستنسابية مع المودعين وليس كما سيحصل اليوم في التعميم 159 الذي سيؤدي حتمًا إلى المزيد من فقدان الثقة في القطاع المصرفي اللبناني. فهذا التعميم لا يمكن فصله عن سياسة تعويم سعر الصرف المعمول بها مؤخرًا من أجل استيراد السلع مما سيؤدي حتمًا بعد وقت قصير إلى ارتفاع جنوني جديد في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية مما سيخلف مزيدًا من التضخم المالي وارتفاع الأسعار بالتالي سينتهي الأمر الى المزيد من تقهقر القدرة الشرائية للعملة الوطنية.