تركيا، تراجع الأحياء وترحيل الأموات
بعد عملية شبعا الأخيرة، أعلنت جبهة المقاومة عن قواعد إشتباك جديدة تتحكم بمجريات الصراع مع العدو الصهيوني على ثلاث جبهات في الحد الأدنى، وكانت معركة جبهتي القنيطرة-درعا الإختبار العملي الأول لمدى “إحترام” العدو لهذه القواعد.
إنطلقت العملية في 9/2، وحققت جُلّ أهداف المرحلة الأولى، والمرحلة الثانية على وشك التنفيذ.
الثلاثاء 17/2 يشن الجيش العربي السوري والقوى الرديفة له هجوماً مفاجئاً في مساره الميداني الإلتفافي، وقوته الضاربة المعتمدة بشكل خاص على عنصر المشاة، في ريف حلب الشمالي ويطهر عدد من القرى والبلدات.
جاء هذا الهجوم متزامناً مع تصعيد كبير على جبهتين أخريين فتحهما الجيش العربي السوري داخل مدينة حلب، الأولى جبهة شيحان-المعامل شمال غرب المدينة، حيث سجل تقدمًا باتجاه الشيخ مقصود لإكمال الطوق على الأحياء الشرقية، أما الثانية فهي في غرب المدينة في منطقة جمعية الزهراء حيث سجل أيضًا تقدم مهم هناك.
22/2 الحكومة التركية “تعيد إنتشار” رفاة سلمان شاه وحراسه الأربعين –كم هو شبيه العنوان بقصة علي بابا والأربعين حرامي- بعملية عسكرية كبيرة شارك فيها 100 دبابة ومدرعة، وأكثر من 570 عسكري تركي… إلى قرية “آشمه” جنوب غرب عين عرب. بعد أن تحدثت عن الجبهة الجنوبية في مقالين سابقين، سأحاول تقديم تصور للمعنى السياسي لما يجري على الجبهة الشمالية، وتفسير الخطوة التركية الأخيرة، إقتلاع قبر سلمان شاه.
* ريف حلب الشمالي، معادلات ودلالات كبرى:
تحرك الجيش العربي السوري والقوى الرديفة له في ريف حلب الشمالي، يحمل الكثير من الدلالات تتجاوز بكثير –على أهميتهما- الفعل العسكري بحد ذاته والنتائج الميدانية التي تمخضت عنه حتى اللحظة، وأشدد على عبارة حتى اللحظة. سأذكر خمسة من هذه الدلالات؟
1- لا يمكن للقيادة السياسية-العسكرية السورية أن تتوجه إلى ريف حلب الشمالي إلا بعد تثبيت قواعد الإشتباك الجديدة على الجبهة مع الكيان الصهيوني، والتأكد بأن العدو قد فهمها جيداً، وألتزم بخطوطها الحمر والصفر، وتعلم كيف يتقن فن “ضبط النفس”.
2- أي جيش يقوم بفتح جبهتين كبيرتين، كما هو حاصل مع العدو الصهيوني وتركيا، يجب أن يكون قد أعد نفسه حتماً لإحتمال فتح جبهة ثالثة، بكل ما تتطلبه هذه الجبهة من رجال وعدة وعتاد… وهذا يؤشر إلى قدرات عسكرية سورية كبيرة جداً كما يؤكد حجم الدعم الكبير الذي يقدمه الحلفاء في جبهة المقاومة لسورية، حزب الله ولواء القدس وايران… .
3- لا يمكن النظر إلى معركة حلب وريفها إلا أنها حرب مباشرة مع أردوغان وداوود أوغلو شخصيّاً وحزب العدالة والتنمية وأطماعهم السلطانية، بعد أن أصبح واضحاً وبالأدلة القاطعة عمق العلاقة بينهم وبين كل الجماعات الإرهابية المنتشرة في شمال وشرق سورية، وفي مقدمتهم داعش؛ بل هي الذارع التركية الضاربة في سورية.
4- تململ واضح في الكثير من بلدات وقرى الريف الحلبي التي ضاقت ذرعاً من تصرفات هذه الجماعات الإرهابية المسلحة، وإنقلابها الدائم على بعضها البعض وتحمل المواطن العادي تبعات هذا التقلب إرهاباً وتهجيراً وقتلاً… وأكد بيان “الهيئة الشرعية في عزاز” هذه الحقيقة عندما توعد كل من أظهر إبتهاجه بتحرير القوات السورية لعدة قرى في الريف الشمالي لحلب.
5- عندما حاولت تركيا وقف تقدم الجيش العربي السوري والحلفاء في ريف حلب الشمالي، بإرسال المئات من الإرهابيين الذين تدربهم وتجمعهم في معسكرات تشرف عليها المخابرات التركية، أرسلت القيادة السورية المزيد من القوات على هذه الجبهة لتؤكد لتركيا وأدواتها الإرهابية أن قرار التحرير لا رجعة عنه، وأن قواعد جديدة للإشتباك مع تركيا سوف يتم ترسيخها مهما كلف الثمن.
لماذا قلت حتى اللحظة؟ لأن إتمام هذه العملية وبلوغها أهدافها، وبشكل خاص إتمام الطوق حول حلب وفك الحصار المضروب على نبل والزهراء سيعني بالميزان العسكري الميداني المباشر، “تحرر” قرابة 20 ألف مقاتل في نبل والزهراء من قيود الحصار وإنتقالهم إلى مرحلة الفعل العسكري بدل الدفاع والتمركز، وخنق 20 ألف إرهابي في بعض أحياء حلب، وهذا سيكون مفتاح تطهير شمال وشرق سورية لا حلب وحدها.
يدرك أردوغان وحاشيته هذا المأزق، لذلك كان الحصار الطويل والهجمات المتكررة لنبل والزهراء، لكن النتيجة كانت عكسية تماماً، صارت نبل والزهراء مركز جذب لكل مقاوم في الريف الشمالي، وتضاعف عدد المقاتلين عدة مرات، وصارت تجربتهم في مقارعة عصابات أردوغان أكبر وأكبر، وحقدهم عليه وعليهم أعمق وأعمق.
* أردوغان، همروجة الإنسحاب: دخول رتلين عسكريين تركيين تمام الساعة التاسعة مساء إلى الأراضي السورية من منطقة عين العرب بالإتفاق مع قوات الحماية الشعبية YPG وبمعرفة قوات التحالف الأمريكي، والقنصلية السورية في أنقره . بعملية هوليوودية على طريقة المارينز الأمريكي، تقوم 39 دبابة و57 عربة مدرعة و100 عربة، و572 جندياً، بنقل سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية في منطقة صرين قره قوزاق، الذي يعتبر “أرض تركية” بحسب أنقرة (بويّون) 1921، والموقعة ما بين تركيا والمستعمر الفرنسي، وإجلاء حرس الضريح وموجوداته ثم تفجير مبنى الضريح و الإنسحاب إلى الأراضي التركية.
واحتلال قطعة أرض حدودية في قرية “آشمة” ضمن الأراضي السورية تمهيداً لنقل الرفاة إليها بعد إنهاء التحضيرات اللازمة حسب التصريحات التركية. والتي تقع جنوب غرب مدينة عين العرب بــ25 كم، وتبعد عن الحدود التركية 1 كم، أغلبية سكانها من الأكراد السوريين ولا يزيد تعداد سكانها على ألف نسمة، تتبع إدارياً لناحية الشيوخ، منطقة عين العرب، محافظة حلب.
لنحاول قراءة هذه العملية:
1- قامت الحكومة التركية بإبلاغ الحكومة السورية عبر قنصليتها الموجودة في أنقرة، عن نيتها القيام بهذه العملية وإن لم تنتظر ردّ الحكومة السورية. يدل هذا التصرف على التحسب الشديد لأي حركة عسكرية تركية في الأراضي السورية، خوفاً من رد فعل عسكري سوري قد ينتج وضعاً ميدانياً تجبر فيه تركيا على إتخاذ قرارات تعلم بأنها فوق طاقتها، أو تمنعها منها الظروف الداخلية والإقليمية والدولية. ومن هنا نفهم إبلاغ تركيا “لتحالف واشنطن” الذي رفضت التوقيع على بيانه التأسيسي في الرياض قبل أشهر والتعاون معه لاحقاً، لتوفر مظلة دولية لهذه العملية المحفوفة بالمخاطر.
2- كلنا يذكر التسريب الشهير لداوود أغلو ومدير المخابرات التركية حقان فيدان وعدد من المسؤلين، حيث كشف أوغلو للاخرين عن طلب اردوغان بالهجوم على الاراضي السورية بذريعة “تهديد” داعش لضريح سليمان شاه. وبحسب المحادثة المسربة اقترح رئيس المخابرات حقان فيدان، إرسال أربعة رجال إلى سورية من أجل إطلاق ثمانية صواريخ من الأراضي السورية على الأراضي التركية أو على الضريح مباشرة من أجل خلق سبب قوي للتدخل، فيما بدى رئيس أركان الجيش يسار جولر متحفظا جدا، إذ شدد على أن مثل هذا العمل سيقود إلى حرب كبرى. بترحيل رفات سلمان شاه يسحب أردوغان من خصومه –داعش، الكرد، أمريكا،الكيان الصهيوني…- ورقة الإضرار بالضريح التي ستكشف ضعفه أو قد تضطره للقيام برد فعل لا يقدر عليه.
3- قبل أيام وقعت تركيا مع واشنطن إتفاقية لتدريب “المعارضة المعتدلة” على الأراضي التركية لمحاربة داعش، وليس كما إدعى وزير الخارجية التركي، محاربة الجيش السوري وداعش. بصرف النظر عن صدق نوايا واشنطن وأنقرة، إلا أن سير المعارك يؤكد بأن موعد إستقبال أردوغان لدواعشه يقترب يوميّاً بعد الإنكسارات الكبرى التي عاناها في غير مكان. هذه الإتفاقية تمثل تراجعاً تركياً عن مقاطعة حلف واشنطن من جهة، وتحسب تركي للحظة الصدام مع داعش من جهة أخرى، وأقرب النقاط وأبرزها لضرب أردوغان وحاشته في صميمهم العثماني ضريح سلمان شاه، فكان قرار ترحيله إلى تركيا.
4- نقل أردوغان رفات سلمان شاه إلى جوار عين العرب، ليجعل منه “ناطوراً” يراقب “الحلم الكردي” ويمنعه من إقامة أي شكل من أشكال الحكم أو الإدارة الذاتية. 5- قبل عدة أيام إستقال مدير المخابرات التركي حقان فيدان، الرجل القوي وصاحب النفوذ الكبير على شبكة واسعة من الجماعات الإرهابية تمتد من أواسط أسيا حتى شمال أفريقيا والجزيرة العربية… وهذا يقود إلى عدة إحتمالات أخطرها، أن هذا الرجل قد يصبح البديل الأول لأردوغان، ما إضطر أردوغان للرضوخ لطلبات واشنطن بخصوص تحالفها، ومعالجة نقاط ضعفه ومنها قبر سلمان شاه الواقع تحت يد أصدقاء فيدان، داعش.
* كلمة أخيرة: ما جرى ليس أكثر من حركة إستعراضية في الشكل، وفي العميق، ليس إلا رضوخاً لقواعد الإشتباك الجديدة التي تفرضها إرادة المقاتل العربي السوري وحلفائه في جبهة المقاومة. إنه تراجع الأحياء، وترحيل الأموات بكل بساطة.