بكين في دمشق.. أيّ تحدّيات وعقبات؟
موقع قناة الميادين-
أحمد الدرزي:
على الرغم من اتخاذ دمشق قراراً بالتوجه شرقاً بعد بدء الحرب عليها، بقيت مترددة في العمل على ذلك، لإدراكها أن الاستقرار فيها لا يمكن أن يحصل إلا تحت غطاء المعادلات الجديدة المتوازنة بين الشرق والغرب، فهل نشهد تعزيز هذا التوجه قريباً؟
ما إن تم التوقيع على مذكرة التفاهم بين الصين وسوريا في إطار مبادرة الحزام والطريق، حتى أعلن السفير الصيني في دمشق “فينغ بياو” أن سوريا أصبحت عضواً في المبادرة، فهل نشهد تحولاً مؤجلاً بحسم الانضمام إلى المشروع الآسيوي؟
فرض الموقع الجيوسياسي لسوريا نفسه على طبيعة التوجهات السياسية للسوريين، فسوريا الطبيعية الأكبر ممّا هي عليه الآن، تقع في نهاية البر الآسيوي بالإطلالة على شرق المتوسط، وفي الوقت نفسه هي جزء أساسي فاعل من البيئة المتوسطية للحضارات التي تعاقبت على أهم بحر في تاريخ الإمبراطوريات، بامتلاكها لكامل الشاطئ الشرقي منه، والممتد من خليج إسكندرون حتى رفح في جنوب فلسطين، فتحولت مع هضبة الأناضول إلى نقطة التلاقي الأهم بين الغرب والشرق، ما جعلها تقوم بدور صلة وصل حضارية بينهما مع رجحان للبيئة المتوسطية، وتبحث دائماً عن توازن العلاقات بين القوى الإمبراطورية الآسيوية والمتوسطية.
لم تخرج سياسات دمشق المعاصرة عن مسألة الجغرافيا والتاريخ، فهي لم تذهب بعيداً عن محاولات لعب هذا الدور سياسياً، بالعمل على إقامة نوع من التوازن بين الشرق والغرب، على الرغم من التهديدات الوجودية الغربية بعد الحرب العالمية الأولى، التي تسبّبت في اقتطاع أجزاء واسعة منها بسكين “سايكس بيكو” كبقية المنطقة، وإقامة كيان فاصل ذي بنية توسعية مهيمنة في فلسطين، ما دفع دمشق إلى الميل نحو الشرق الذي مثّل صِمام أمان أفضل لها.
على الرغم من اتخاذ دمشق قراراً بالتوجه شرقاً بعد بدء الحرب عليها، بقيت مترددة في العمل على ذلك، لإدراكها قيمتها الجغرافية والتاريخية، وأن الاستقرار فيها لا يمكن أن يحصل إلا تحت غطاء المعادلات الجديدة المتوازنة بين الشرق والغرب.
تركت هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان آثاراً كبيرة على الدول التي تعتمد في استمرارها ودورها على قيادة واشنطن، وتزعزعت الثقة بمدى قدرتها على القيام بحمايتها دولياً، في وجه مخاطر النهضة الصينية الهائلة، والعودة الروسية إلى المسرح الدولي كلاعب مُقرّر في مسارات السياسة العالمية، إضافة إلى انتزاع إيران للاعتراف الواقعي بدورها الإقليمي، ما دفع إلى إرسال إشارات أميركية إلى إمكان إيجاد تسوية دولية للكارثة السورية.
عادت الإدارة الأميركية إلى التشدّد في الملف السوري من جديد، في محاولة لاستعادة الثقة بها لدى دول الاتحاد الأوروبي وأغلبيّة الدول العربية، ما انعكس سلباً على آمال السوريين بقرب الخروج من كارثة الحرب، وتبعاتها الاجتماعية والاقتصادية الكارثية عليهم.
تلقّت دمشق اندفاعة بكين المتأخرة نحوها بحذر، مع وصول وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” إليها في زمن ذي دلالة رمزية سياسية داعمة، قبل ساعات من خطاب القسم الرئاسي بعد العملية الانتخابية، وهي تترقّب ارتفاع مستوى الغضب الغربي تجاه هذه “الخطوة الناقصة” بنظره، وخاصةً فرنسا التي تسعى لاستعادة الدور المفقود، ابتداءً من الدول المتشاطئة على حوض المتوسط، فلم تتّخذ دمشق خطوة جريئة بردّ زيارة وزير الخارجية الصيني لدمشق، واكتفت في ما بعد بالاتصال الهاتفي بين رئيسي البلدين، في خطوة حذرة في التعاطي مع مبادرة الحزام والطريق، وإرسال رسالة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبقية دول الخليج، بأن الخيار الصيني لإعادة الإعمار يوفر بديلاً كاملاً عن الممانعة الغربية لفك الحصار والعقوبات عن سوريا.
جاء توقيع مذكرة التفاهم بين البلدين ضمن سياق تحولات آسيوية واعدة، فلم ينتهِ عام 2021 إلا وقد تمّ التوقيع على الربط السككي الحديدي بين العراق وإيران في معبر شلامجة، بعد عشرين عاماً من المفاوضات بين البلدين، وفي انتظار انتهاء المفاوضات، الشروع في الربط بين العراق وسوريا بعد تأمين طرفي الحدود، والوصول إلى مرفأ اللاذقية مروراً بحلب، العاصمة الاقتصادية لسوريا، وتبع ذلك عبور أول قطار من باكستان إلى إيران وتركيا، مع إعطاء الصين الموافقة على افتتاح قنصلية لها في مدينة تشابهار الإيرانية على بحر العرب، لتسيير معاملات آلاف الخبراء الصينيين الذين سيأتون إليها، وتبع ذلك إعلان وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان من بكين بدء العمل على اتفاق الشراكة لمدة 25 عاماً مع الصين، ليثبّت معادلة جديدة في الصراع مع الغرب “بكين أقرب من ڤيينا”.
أصبح واضحاً لدمشق أن ملفها هو آخر ملف قابل للحل ضمن مجموعة الأزمات المتشابكة في أوكرانيا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وكازاخستان، وهذ الأمر قد يحتاج إلى سنوات تتجاوز العقد، بانتظار وضوح نتائج الصراع الدولي على بنية النظام العالمي الحالي، والوصول إلى نظام جديد متعدّد الأقطاب والسياسات والثقافات، وبالتالي استمرار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، ولا خيار لها إلا في الدخول الكامل ضمن إطار “مبادرة الحزام والطريق الصينية”، وضمن المشروع الأوراسي الروسي المتقاطع مع المبادرة، وتوسيع الشراكة ضمن النظام الإقليمي الممتد من طهران إلى بيروت وصنعاء، وهي تحتاج إلى خطوات جريئة أكثر من السابق، مع العمل ضمن مساحة التقاطعات بين المشاريع الثلاثة، وحل إشكالية التباين في الرؤى والأهداف في ما بينها، بما يعزز دورها بينهم، كمساحة تقاطع لازمةٍ للأطراف الثلاثة.
تقف أمام دمشق مجموعة من العقبات المعرقلة للاصطفاف الكامل، فهي على المستوى الداخلي تحتاج إلى تغيير واسع وعميق في كل المستويات، وخاصةً ما يتعلق بالتشريعات الاقتصادية التي تتطلبها الشراكة، إضافة إلى تغيير بيئة العمل الاقتصادي، بالعودة إلى الدورة الاقتصادية الطبيعية المُنتجة، عدا عن ضرورة تغيير الإدارات البيروقراطية كي تصبح في موقع التفاعل الأمثل مع الاصطفاف الآسيوي، الذي أصبح المنفذ الوحيد للخروج من تبعات الحرب.
يمثّل بقاء قوات الاحتلال الأميركي في منطقة الجزيرة السورية وفي قاعدة التنف على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية أكبر عقبة، خاصةً بعد تفعيل دور تنظيم “داعش”، وإعادته إلى العمل في منطقة البادية السورية ليمثل تهديداً أمنياً مستمراً، انطلاقاً من قاعدة التنف، بعد أن تمّ إطلاق سراح عدد غير محدد من عناصره حتى الآن من سجن أبو الهول في الحسكة، وتزويدهم بالسلاح والمعلومات الاستخبارية، لقطع التواصل السوري مع البر الآسيوي.
يلعب الإنقسام السياسي في العراق دوراً معرقلاً، بفعل استمرار وجود قوات الاحتلال الأميركي، ما يمنع من توفير بيئة آمنة مستقرة، وخاصةً أن أولويات أكثر القوى السياسية العراقية متناقضة، كنتيجة لوجود الاحتلال وما نجم عنه من نظام سياسي يعتمد المحاصصة في كل شيء، ما أفقد العراق القدرة على القيام بدوره الإقليمي، والتواصل مع سوريا بشكل أساسي، ليكوّنا معاً كتلة إقليمية كبيرة ضمن إطار الهلال الخصيب.
لم يعد لدمشق من خيارات أمامها سوى أن تحثّ السير باتجاه الشرق، وهذا يتطلب منها العمل بجرأة على إزالة العقبات الداخلية والإقليمية من جهة، والدفع نحو إخراج القوات الأميركية بأي ثمن من جهة ثانية، فالصراع مديد ويحتاج إلى سياسات وإدارات جديدة، وتحويل مذكرة التفاهم مع بكين إلى اتفاق شراكة كامل، فهل نشهد ذلك قريباً؟