بعد الفَرنَسة والتتريك.. السَّعوَديَة تجد أدواتها في لبنان
الكلام عن سطوة العائلة الحاكمة في السعودية على القرار والإرادة السياسية لفريق الرابع عشر من آذار في لبنان، بشخصياته ومؤسساته السياسية والصحفية، خرج من إطار التنظير الكلامي ودائرة الاتهام السياسي. لم يكن الجمهور اللبناني ـ والعربي أيضاً ـ بحاجة الى وثائق ويكيليكس، ليتثبّت من أمر مؤكد لديه حد اليقين.
على الرغم من ذلك، فإن لهذه الوثائق أهمية فائقة كونها تشكّل دليلاً حسيّاً ملموساً، دفع جمهور هذا الفريق الى التسليم بتبعية مرجعياته السياسية المتعدّدة.. وهذا أمر خطير بحد ذاته. تكمن الخطورة في تعوّد الرأي العام على فكرة التبعية وتنفيذ أجندات أجنبية مقابل الحماية والدعم المادي والسياسي ـ هذا بالضبط ما يُسمى عمالة ـ وهو تبرير لا يساويه سوءاً سوى موجة الصمت التي سادت الشخصيات التي تناولتها ويكيليكس، فضلاً عن جمهورها.
الأسماء التي كشفت وثائق ويكيليكس تزلفها للحاكم السعودي، واستعدادها لتنفيذ رغباته السامية، أتت طنّانة رنّانة، صاحبة باع طويل في التغني بالسيادة والحرية والاستقلال، واتهام الآخرين بالارتهان للخارج وتنفيذ مشاريع أجنبية. ليس فؤاد السنيورة أو أي من شخصيات “المستقبل” وإعلامه “مفاجأة الحفل”. أصلاً، المستقبليون ـ صقورهم وحمائمهم ـ معروفو الولاء والإخلاص. الـMTV وسمير جعجع أيضاً لم يكونا مفاجئَين باستعدادهما لتنفيذ “رغبات طال عمره” مقابل “صرّة من الدنانير”.
ما كان مفاجئاً هو حدّة وضوحهما ودرجة ولائهما وتماهيهما الى حدّ الذوبان مع المشروع السعودي في لبنان. ليس تفصيلاً أن يكون اليمين المسيحي، المعروف تاريخه “الحسّاس” حيال “الغريب والمختلف” في لبنان، منسجماً مع أكثر الأنظمة تخلّفاً وتزمّتاً وتكفيراً في المنطقة.. ما يجمعه التطرّف لا تفرّقه “الكليشيهات”!
ورود اسم جريدة “النهار” مثلاً على قائمة تضم أسماء المؤسسات الإعلامية والصحافية التي تنفّذ السياسة السعودية في لبنان، هو الآخر ليس حدثاً سهلاً بالنسبة لأجيال تربّت على صياح “ديك” الحداثة والتحرّر والاستقلالية. نكران هذا الواقع هو أحد عوارض الصدمة التي قد تصيب بعضاً من جماهير هذا الفريق بشخصياته ومؤسساته العريقة. على أن التبرير يبقى أحد أخطر هذه العوارض. تبرير بيع الولاءات والقيم المهنية والأخلاقية والدينية، يمهّد لتحويل المجتمعات الى بؤر استيطانية خالية من أية قيم إنسانية وتقاليد وأعراف نابعة من أصالة هذه المجتمعات وثقافتها.
في مقابل شراء الذمم، واستزلام أصحاب الرأي، ترهيباً وترغيباً، ظهر من وثائق ويكيليكس السعودية، استسهال اتهام “الآخر” بأحداث ووقائع مبنية على مصادر تكاد تكون خرافية في بعض الحالات. الأخطر، أن هذه الإتهامات يُبنى عليها موقف سياسي، ويُساق بموجبها سياسيون وإعلاميون وصحفيون الى مواجهة نارية مع هذا الآخر.
تنقسم مصادر المعلومات، وفقاً لوثائق ويكيليكس السعودية، الى عدّة أنواع:
– محاضر لقاءات جمعت سفراء أو دبلوماسيين سعوديين بنظراء لهم أو بمسؤوليين محليين. تتضمن هذه المحاضر مطالب الضيف أو طلبات المضيف. هذا المصدر الوحيد الذي ينقل حرفياً كلام الضيوف وطلباتهم ودرجة تعاونهم.
– معلومات استخبارية أو سياسية وصلت الى السفارة بالتواتر، وغالباً ما تكون مجهولة المصدر (محللون، مراقبون، مقرّبون من الزعيم الفلاني).
– معلومات أمنية مجهولة المصدر تصل الى السفارة عبر البريد الإلكتروني أو عبر الهاتف.
أما أحد أبرز مصادر معلومات وزارة الخارجية السعودية وجهاز استخباراتها “فاعل خير”، أو “شخص رفض الإفصاح عن هويته”، فضلاً عن أشخاص يمارسون هواية الوشاية بمواطنيهم إنتقاماً منهم.
إذا كان الفرنسيون والأتراك قد حاولوا، عبر التاريخ، فرض لغتهم وثقافتهم بقوة الحديد والنار، على الشعوب العربية الخاضعة لإرادتهم واحتلالهم وبطشهم، تجهد عائلة آل سعود اليوم لفرض نمطها السلوكي والأخلاقي بـ”نعومة” على الشعوب، عن طريق أطراف وجهات خاضعة لإرادتها وأموالها ومصالحها.
لم يعد نهج فَرنَسة المجتمعات وتتريكها، لإخضاعها، حكراً على دولتَي الاحتلال فرنسا ودولة تركيا العثمانية، ولم يعد هذا النهج محصوراً بسياق زمني أكل عليه الدهر وشرب. ثمة في القرن الحادي والعشرين مَن لازال يعمل على فرض توجّهاته الدينية وقيَمه الثقافية على شعوب ودول ومنظمات لإخضاعها ودفعها للانخراط في معكسر منفّذي الأوامر ومطيعيها، بإرادتهم أو رغماَ عنها.
كان الفرنسيون يكافئون المتعاملين معهم بمنحهم الجنسية أو امتيازات اقتصادية ومعنوية. فيما وزّع الأتراك الألقاب على أتباعهم، فازدهرت إقطاعيات الباكوات والباشاوات المحظيين. أما آل سعود، فوزّعوا على أتباعهم المال وعقود الأعمال، فضلاً عن المناصب السياسية مقابل خدمات سياسية لصالح المملكة. مثلاً، تشير إحدى الوثائق سعي ميشال سليمان للحصول على تمويل كبير تحت غطاء العمل الإجتماعي، فيما طلب الياس المر صراحة التمويل للفوز في الانتخابات. فيما تكشف وثائق أخرى توصيات بالتقرّب من سياسي معيّن (إلياس سكاف) واستمالته لإبعاده عن المقاومة، والتوصية مثلاً بمصباح الأحدب لأنه معارض لحزب الله و”مستقبله جيّد”.
أظهرت وثائق ويكيليكس السعودية، أن العقل السعودي يتعاطى مع فريق الرابع عشر من آذار، ليس من منظور الحليف أو الصديق، ولا من زاوية المصالح المشتركة، بل على الطريقة العربية الشعبية لمفهوم ربّ العمل و”الشغّيل”. أظهرت الوثائق أيضاً أن عقل فريق الرابع عشر من آذار في لبنان، مُبرمج على واحد من نظامين “مَن يدفع أكثر” أو “مين أخد أمي صار عمي”.