بريطانيا المأزومة
صحيفة البعث السورية-
عناية ناصر:
تعتبر الأزمة السياسية في وستمنستر من أعراض أزمة أعمق بكثير للرأسمالية البريطانية، حيث يعكس عدم الرضا عن حكومة المملكة المتحدة وعياً متزايداً بين البريطانيين بأن الظروف المعيشية تتدهور بسرعة. فبعد الارتفاع البطيء بثبات لمدة 50 عاماً من عام 1960 فصاعداً، لم يرتفع متوسط العمر المتوقع عند الولادة في العقد الماضي. في الواقع، بسبب أعداد الوفيات الزائدة الناجمة عن وباء كوفيد-19، مقارنة بعام 2019، كان متوسط العمر المتوقع في إنكلترا في عام 2020 أقلّ بنسبة 1.3 سنة للذكور، و0.9 سنة للإناث. مؤخراً، ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” أن أربعاً من كلّ 10 أسر بريطانية تعاني بشكل واسع لدفع فواتير الطاقة، التي زادت بشكل كبير في الأشهر الأخيرة.
يبلغ معدل التضخم حالياً 9 في المائة، وهو أعلى مستوى له منذ 40 عاماً، كما أدى ارتفاع الأسعار إلى انخفاض الدخل، إضافة إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي طوال عام 2022 وحتى الآن. في غضون ذلك، تحاول بريطانيا التعافي من الضربة التي تلقتها جراء فيروس كورونا، ووفقاً لجونز هوبكنز، خسر أكثر من 181000 شخص حياتهم بسبب الفيروس.
تعاني بريطانيا من أزمة حقوق الإنسان، والتي اعتقد الكثيرون أنها لم تكن ممكنة في القرن الحادي والعشرين، حيث أشارت الإحصاءات الصادرة في كانون الأول عام 2021 إلى أن 688 شخصاً على الأقل لاقوا حتفهم نتيجة أزمة تشردهم في إنكلترا وويلز في عام 2020. ولا تؤثر الأزمة على جميع الفئات الاجتماعية بالتساوي، فالأطفال السود أكثر عرضة بمرتين من نظرائهم البيض كونوا نشؤوا في فقر.
إن أزمة حقوق الإنسان هذه هي أصل الأزمة الحكومية، كما أن الوضع الاقتصادي المتردي هو نتيجة السياسات التي اتبعتها الرأسمالية البريطانية على مدى العقد الماضي وأكثر. وبينما كانت استجابة بعض البلدان -ولاسيما الصين- للأزمة المالية العالمية لعام 2008 من خلال زيادة الاستثمار في البنية التحتية والاستجابة لاحتياجات الناس العاديين، إلا أن استجابة بريطانيا كانت ببرنامج تقشف نيوليبرالي، وخفض الإنفاق على الإسكان والتعليم والرعاية الصحية وخدمات الشباب.
منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عملت الطبقة الحاكمة البريطانية على تعميق برنامج الليبرالية الجديدة هذا، وتحرير الاقتصاد، وخفض الضرائب وتقليل الإنفاق الاجتماعي من أجل جعل بريطانيا أكثر جاذبية للولايات المتحدة، التي تسعى بريطانيا يائسة للتوصل إلى اتفاق معها على اتفاقية تجارة حرة.
جنباً إلى جنب مع البرامج الاقتصادية المؤذية، قامت بريطانيا بشكل أساسي بربط سياستها الخارجية بواشنطن، متماشيةً مع سياسات الحرب الباردة الجديدة ضد الصين وروسيا، وهي سياسات تخدم مصالح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، ولكنها تتعارض بشكل مباشر مع مصالح الناس العاديين في بريطانيا.
حدّدت مراجعة الدفاع البريطانية لعام 2021 “بريطانيا العالمية في عصر تنافسي” أن الصين هي “أكبر تهديد قائم على الدولة للأمن الاقتصادي للمملكة المتحدة”، وأعلنت أن بريطانيا ستتوجّه نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ في قرار غريب بالنظر إلى أن بريطانيا على الجانب الآخر من العالم للمحيط الهادئ.
وفي محاولة منها للعودة إلى أيام الإمبراطورية البريطانية، انضمت المملكة المتحدة إلى أستراليا والولايات المتحدة العام الماضي لتشكيل “أوكوس”، وهي الاتفاقية الأمنية الثلاثية التي تهدف أساساً إلى إنشاء الناتو في المحيط الهادئ. ولهذا الغرض، أرسلت بريطانيا أكبر حاملة طائرات لها “كوين إليزابيث” إلى بحر الصين الجنوبي. وعلى الصعيد الاقتصادي، فرضت بريطانيا إزالة شبكة شركة “هواوي” الصينية من البنية التحتية لشبكة “الجيل الخامس”، وانضمت بريطانيا أيضاً إلى جوقة النفاق بشأن انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة في منطقة شينجيانغ الصينية، فضلاً عن الانتهاك المتعمد لسيادة الصين من خلال تقديم جوازات السفر البريطانية لمئات الآلاف من المقيمين الدائمين في هونغ كونغ.
في غضون ذلك، كانت بريطانيا “رأس الحربة” فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، حيث قدمت دعماً مالياً وعسكرياً واسع النطاق لكييف، وشنّت حملات لفرض عقوبات غير مسبوقة على موسكو. هذه الإجراءات القسرية أحادية الجانب لها تأثير سلبي على شعب بريطانيا وعلى أجزاء كبيرة من العالم، كما أدّت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة والأسمدة.
باختصار، لقد أخضعت الحكومة البريطانية المصلحة الوطنية للنخب الأمريكية العازمة على اتباع استراتيجية عدوانية ومهيمنة ضد الصين وروسيا، وهذه الحرب العالمية الهجينة المتصاعدة موجهة نحو مشروع قرن أمريكي جديد، وهو مشروع لن يحقق أي مكاسب على الإطلاق للشعب البريطاني. ولذلك لن تتمكّن بريطانيا من التغلب على أزماتها الاقتصادية والسياسية إلا عندما تتخلى عن دعمها للإمبريالية الأمريكية، وعندما تبدأ في تحديد دور بريطانيا في عالم متعدّد الأقطاب خالٍ من الهيمنة. وبغضّ النظر عمن سيقود الحكومة المقبلة في وستمنستر، سيكون من المستحسن تطوير سياسة خارجية واقتصادية تقوم على تحسين مستويات معيشة البريطانيين.