اليونان تقدم أنموذجاً للعالم.. إن صمدت
موقع العهد الإخباري ـ
محمود ريا:
تحوي الميثولوجيا اليونانية الكثير من الأساطير، التي يتحدث بعضها عن بشر يواجهون وحوشاً مفترسة وغيلاناً وتنانين تنفث حقداً وناراً.
ولكن ما يشهده الشعب اليوناني اليوم على أرض الواقع لم تصل إليه أي شطحة من شطحات المتخيلين ومؤلفي الأساطير في تاريخ هذا البلد.
اليوم، يقف اليونانيون في مواجهة وحش حقيقي، وإن لم يكن وحشاً غير ملموس، يقوم بالتهام كل شيء: أرزاق المواطنين، أملاكهم، أموالهم، مستقبلهم، أحلامهم، وحتى بلدهم بكل ما فيه.
ويحمل هذا الوحش اسماً لطيفاً، لا يشبه الأسماء التي كانت تطلق على الوحوش في الأساطير القديمة، واسمه بكل بساطة “النظام الرأسمالي العالمي”.
يمتلك هذا النظام كل ما حوته وحوش الأساطير من صفات، فهو قاسٍ ومتوحش ويدعي الربوبية ولا ينظر بأي حال من الأحوال لأوضاع ضحاياه.
إنه نظام مستعد أن يسحق شعوباً وأمماً بكاملها، وأن يمتص دماءها وقوتها وإمكانياتها، وأن يتركها حطاماً وقطعاً ممزقة، لكي يبقى هو، ولكي يقوى هو، ولكي يحافظ على تغوّله، متنقلاً من أمة إلى أمة ومن قارة إلى قارة.
وحوش الميثولوجيا اليونانية يسقطون في النهاية أمام الأبطال
هذا النظام المتوحش يسخّر كل ما لديه من أدوات كي يُطبِق على ضحاياه، فهو تارةً يوفر لهم “الديموقراطية” كخدمة قابلة للتوصيل مجاناً، وطوراً يزيّن لهم الثورات الملوّنة، وأحياناً يتحدث عن حقوق الإنسان، وأحياناً أخرى يُعلي حكم القانون.. ولا ينسى أن يزيّن ذلك ببعض من أحدث ما توصل إليه هذا النظام من بهرجات عالم الترفيه والتسلية والكماليات التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، فيجعل منها هدفاً يسعى له الشعب الجائع، فيلتهي عن الخبز بالبسكويت، وعن اللقمة بالعلكة.
لقد حطّ هذا النظام رحاله في اليونان هذه المرة، مستغلاً أزمة اقتصادية هو خلقها لها، عبر دفع هذا البلد الفقير إلى الانخراط في منظومة اقتصادية لا يقدر على مجاراتها، تسمى منطقة اليورو، مزيّناً لساستها “الفوائد” التي ستتحقق من هذا الانخراط، على صعيد العملة الموحدة والاقتصاد العملاق والرساميل المتدفقة.. والأهم من ذلك.. الديون التي لا تقف عند حد.
واستفادت اليونان من بعض المظاهر خلال السنوات الماضية، إلى أن حان موعد قطاف رؤوس اليونانيين، وأزف وقت استرداد الديون، فوجدت اليونان نفسها دولة ضعيفة مفلسة غير قادرة على دفع فوائد الديون، فضلاً عن الديون نفسها، فسنّ النظام المتوحش أسنانه، ليلتهم وجبته الجديدة، متحضراً للإطاحة بمؤسساتها، وشراء ممتلكاتها بأبخس الأثمان، فارضاً عليها دفع فوائد الديون الآن وفوراً.. وإلا ستصبح هذه الدولة دولة فاشلة، أو بمعنى آخر.. لا دولة.
نعود إلى الميثولوجيا اليونانية، فهناك، كان مقابل كل وحش بطل، يقدم نفسه شهيداً من أجل القضاء على خطره.
وإذا كان الوحش في الميثولوجيا يتميّز بأنه منفرد، واحد، يمتلك قدرات هائلة ويستمد طاقاته من قوى غيبية، فإننا نجد اليوم في اليونان أن البطل هو الشعب ـ بمعظمه ـ الذي وقف أمام الوحش الرأسمالي الأوروبي الهائل، مطلقاً “لا” قوية، صادمة، جعلت كل العالم يقف على رؤوس أصابعه بانتظار نتائج المواجهة بين الطرفين.
اليونان في خضم معركة كبرى اليوم، هي ليست فقط معركة مع اليورو ومنطقته، ومع الاتحاد الأوروبي وديونه، وإنما هي معركة مع نظام متكامل، نظام لا يمكن أن يسمح لأحد بالتمرد عليه، لأن الخطأ الأول في هذا المجال هو الخطأ الأخير، ولأن أي خروج عن طاعة هذا النظام في مكان ما سيكون مثالاً ستتبعه الكثير من الدول الأخرى في أوروبا، وفي العالم كله، من أجل الخروج من رقة هذا الاستعباد المالي الذي يفرضه هذا النظام على الدول كافةً.
ومن أجل تكبيل اليونان، ومنعها من استمرار السير في المواجهة، يستخدم النظام كل ما لديه من عوامل قوة:
ـ فالمال والديون من هذه العوامل، لذلك يمنع هذا النظام عن اليونان أي مبلغ لتسيير حركة الدولة قبل أن ترضخ الحكومة اليونانية لشروطه.
ـ والإعلام وسطوته عامل مهم جداً في محاربة اليونان وحكومتها، فتجد وسائل الإعلام العالمية تشيطن رئيس الوزراء، وتهزأ بوزير ماليته (المستقيل)، وتسخر من الديموقراطية اليونانية التي تجلّت في استفتاء شارك فيه أكثر من ستين بالمئة من الناخبين، وأنتج “لا” كبيرة بأكثر من ستين بالمئة من المقترعين، لا لشيء، إلا لأن هذا الاستفتاء لم تأتِ نتائجه على هوى سدنة النظام المالي العالمي.
إنه العهر السياسي بعينه، يمارسه هؤلاء المتسلطون على العالم، دون أي اعتبار لخصوصية، ولا احترام لإنسانية، أو تقدير لاختلاف.
ولكن بالرغم من كل ذلك، لا يمكن إلا استذكار التاريخ الإغريقي الذي كان يذكر دائماً أن الوحوش التي تعربد بقوتها وسطوتها في وجه محاربيها، لا تلبث أن تسقط صريعة أمام إرادة هؤلاء المحاربين وتصميمهم، ورفضهم الرضوخ للرعب الذي يبثه هؤلاء الوحوش.