الوساطة الروسية بين مصلحة سوريا وأهداف أنقرة
موقع الخنادق-
عزيز موسى:
شكّل الاجتماع الوزاري الذي ضم وزراء دفاع روسيا وسورية وتركيا في موسكو، نقطة مهمة على صعيد التحولات في عمر الأزمة السورية، التي ستدخل في عامها الثاني عشر وسط فوضى عالمية، التي فرضتها طبيعة التغيرات في التوازنات بين القوى، حيث احتل هذا الاجتماع الصفحات الأولى من عناوين الصحف ووسائل الإعلام عالمياً، في ظل إمكانية أن يحمل عام 2023 تطورات في مواقف الدول، خاصة تلك التي اتخذت موقفاً معادياً لسورية وشعبها، وسط سباق للمصالحات تروج له العديد من الدول للتقارب مع دمشق، بعد فشل المخططات الهادفة لتدمير هذا البلد وتفتيته.
اردوغان وحسابات الداخل التركي
لم تهدأ التصريحات والأدوات التركية المعادية للدولة السورية منذ عام 2011، والتي انقلبت فيها تركيا على أثر الحرب التي شُنت على سورية، من موقف الصديق السابق إلى العدو اللاحق، بتقديم الدعم للإرهابيين، في محاولة لتدمير الدولة السورية والقيام بسرقتها ونهب أراضيها، اليوم وبعد ما يقارب 12 عاماً يظهر الرئيس التركي رجب اردوغان بتصريحات متتالية مع العديد من المسؤولين في إدارته، تفيد بإمكانية التقارب مع دمشق واللقاء مع الرئيس بشار الأسد، مما أثار تساؤلاً رئيسياً في جميع الأوساط، مفاده ما هي مصلحة اردوغان ومدى جديّة أنقرة في ذلك؟
يكمن السبب الرئيسي لتلك التصريحات، اقتراب موعد الانتخابات التركية في حزيران القادم، في ظل أوضاع داخلية تركية متأزمة يعاني منها اردوغان، نظراً للإخفاقات الاقتصادية والضغوط، وازدياد حجم المعارضة الوازنة وامتلاكها لأوراق من شأنها إلحاق الخسارة به في الانتخابات في حال بقاء الأوضاع على حالها، فضلاً عن الخوف من تكرار سيناريو انتخابات البلدية السابقة التي حصلت عام 2019، وخسارة “حزب العدالة والتنمية” لأهم البلديات وعلى رأسها أنقرة واسطنبول، وهذا ما يُفسّر اعتقال رئيس بلدية الأخيرة أكرم أوغلو نظراً لكونه أحد أبرز المنافسين للرئيس التركي الحالي.
على المستوى الآخر، تُقلق تركيا ثلاثة مواضيع أساسية في علاقاتها مع دمشق، الأول: الوجود الكردي المتمثل (بوحدات حماية الشعب، حزب العمال الكردستاني) على الحدود الشمالية السورية، وسيطرتها على العديد من المناطق مما يشكّل تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي وضرورة إيجاد منطقة خالية من التواجد الكردي بعمق 32 كيلومتراً، وخاصة بعد فشل أنقرة في العديد من العمليات العسكرية التي قامت بها ضد المجموعات الكردية، وهذا في حال استمراره من شأنه أن يحقق خسارة مؤكدة لأردوغان في انتخاباته المقبلة.
الموضوع الثاني: يتمثل بمشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، والذين يقدّر عددهم بأكثر من 3.7 ملايين لاجئ، وسط استياء كبير من وجودهم، على الرغم من المحاولات العديدة لإعادتهم والتي باءت بالفشل، وبإدراك تام أن هذا الملف شأنه شأن جميع الدول لا يمكن حله إلا من خلال التواصل والتنسيق مع دمشق.
الموضوع الثالث: يتمثل بالعلاقات الاقتصادية السورية- التركية، التي شهدت ازدهاراً كبيراً قبل عام 2011، وخاصة بالنسبة لتركيا لما يشكّله موقع سورية الجغرافي كنقطة عبور وطريق للبضائع والسلع التركية نحو الخليج وشمال إفريقيا، أي أن سورية تُمثّل البوابة الرئيسية لتركيا للدخول نحو العالم الإسلامي على مستوى الاقتصادي والطريق البري، بما يوسّع من النفوذ التركي في المنطقة، لذلك فقد جاءت تصريحات الرئيس التركي “بإمكانية اللقاء مع الرئيس الأسد”، ومن ثم وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو: “استعداد أنقرة لنقل مناطق السيطرة إلى دمشق، وآخرها إمكانية الاجتماع المقبل الذي سيكون على مستوى وزراء الخارجية في بلد ثالث”.
سورية وسياسة الصبر الاستراتيجي
تُجيدُ دمشق تاريخياً الاحتراف في سياستها الخارجية على حافة الهاوية، والنفس الطويل في حل مختلف ملفاتها، وخاصة الرئيس بشار الأسد الذي جسّد طوال فترة الحرب على سورية نموذجاً للقائد الثابت، صاحب الرؤية السياسية الواسعة والحاضرة، التي تُلبي أهداف دمشق من جهة، وتحقق مكاسباً لها، حيث أن اللقاء الوزاري الأخير بين الدول الثلاث ( الروسي، السوري، التركي)، جاء كخطوة توجّت اللقاءات الأمنية الاستخبارية السابقة التي جمعت كلاً من مدير مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك، ومدير الاستخبارات التركية هاكان فيدان، والتي كان آخرها في تموز/ يوليو الماضي، إذ أن الشروط السورية هي شروط سيادية واضحة، تتمثل بالانسحاب الكامل لقوات الاحتلال التركي، واحترام وحدة وسيادة الأراضي السورية، ووقف الدعم لفصائل ما يسمى بالمعارضة المسلحة ( الإرهابيين)، والعمل على القيام بخطوات إيجابية جدية تجاه العقوبات الغربية على دمشق، والمساهمة في مرحلة إعادة الإعمار، وفتح الطريق الدولي M4 ( حلب- اللاذقية- ادلب)، هذه الشروط التي تُدرك من خلالها دمشق أهمية إعادة تموضعها واستعادة الأراضي المحتلة، حيث أن الرئيس الأسد بات على معرفة يقينية بالمراوغة التركية السابقة، وعدم إعطاء أي “هدية” مجانية أو التنازل عن أحد الشروط مستقبلاً، التي تشكّل ضغوطاً على الدولة السورية، وإلا لما تم ترجمة ذلك باجتماع أولي رسمي بين وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات، أي أن هناك مصالح مشتركة بين الطرفين تقتضي طبيعة السياسة التوصل إليها.
كما أن هذا من شأنه إعطاء دمشق القوة السياسية التي من خلالها تستطيع الحصول على مكاسب أمنية واقتصادية، وخاصة بعد الحصار الاقتصادي الخانق المطبق على سورية، والأحوال المعيشية المتردية للعديد من الأسباب، في ظل وجود نية من قبل أطراف عربية وخليجية على وجه التحديد وفق مصادر مطلعة، لعودة العلاقات مع دمشق خاصة من قبل السعودية، التي ترى في التواجد الإيراني والتركي في حال “التطبيع” تهديداً لها ولمصالحها أيضاً.
هذا التحول الدراماتيكي في طبيعة العلاقة والتعامل بين أنقرة ودمشق، من شأنه أن يحمل خطوات إيجابية تتسم بالحذر وتنعكس على الحل السياسي للأزمة، كذلك على المستوى الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بتواجد الجماعات الكردية المسلحة في بعض مناطق الشمال السوري وسيطرتها عليها على منابع الطاقة الأساسية للبلاد من نفط وغاز، مما يمكن أن يفرض تهديداً وحصاراً مطبقاً على المليشيات الكردية ويعيق الولايات المتحدة، التي لن تقف مكتوفة الأيدي في حماية أدواتها إلا في حال تخليها الكامل عنها، وهذا ما يشير إليه مضمون الاجتماع الذي حصل بين رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني، وقائد ميليشيا “قسد” مظلوم عبدي، والقائد العام لقوات التحالف الدولية في العراق وسورية ماثيو ماكفرلين في 20 من الشهر الماضي، إضافة لإمكانية الدفع بإرهابيي “داعش” من خلال تنشيطها لإثارة التوترات والفوضى.
تُدرك دمشق بعد سنوات من الحرب مدى مراوغة السياسة التركية وعدم مصداقيتها، إلّا أن الرئيس اردوغان بات بحاجة لهذا التقارب و”التطبيع” لخلق أوراق قوة بيده، تتيح له الدخول بقوة في انتخاباته، ومحاولة إنهاء التواجد الكردي على حدوده الجنوبية بشكل كامل، بانتشار قوات حرس الحدود السورية وسيطرتها على الشريط الحدودي بما يشكل ضمانة، كما أن موسكو قدّمت لأردوغان “هدية دسمة” لإنقاذه من المخاطر التي يواجهها، فضلاً عن المصلحة الروسية التي تقتضي ضرورة عودة العلاقات بين شريكتها أنقرة وحليفتها دمشق، إذ أن الأولى ستصبح مركزاً لتوزيع الغاز الروسي عالمياً نتيجة للعقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا، والمساهمة في التخفيف من حدة وتيرة المقاطعة السياسية المفروضة على سورية التي تؤثر عليها اقتصادياً بشكل كبير ومحاولة تفكيك عُقد الحل السياسي السوري بخطوات ملموسة، وهذا بدوره بات يفرض تساؤلاً في مدى إمكانية أن يكون عام 2023 عام التغييرات والمصالحات؟، والذي يتوقف بدوره على جديّة وواقعية تركيا والأطراف الأخرى، وطبيعة المتغيرات الإقليمية والدولية.