الهجرة المعاكسة … الى فلسطين
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
ابراهيم الأمين:
في احدى الشقق المنزوية في منطقة الدورة، يقدم لك جاك (اسم مستعار) الخدمات التي لا تنسى. باسبورات وهويات وأوراق رسمية مزورة، تعود لجنسيات عربية وافريقية ومن اميركا اللاتينية وبعض دول اوروبا الشرقية. والبدلات تتراوح بين الف وخمسة الاف دولار لكل وثيقة. وهو مستعد، لكن من دون ضمانة، لان يحاول تأمين وثيقة تخص احدى الدول الاوروبية أو الاميركية الشمالية، مقابل بدل اولي قيمته عشرة الاف دولار. لكنه لا يضمن لك استعادة المبلغ او الحصول على الوثيقة. وهو يصارحك بأنه نجح في اربعين في المئة من محاولاته مع الدول المتقدمة، وبرأيه المسألة مرتبطة بالحظ ليس اكثر.
جاك كان مشغولا قبل مدة في تزوير جوازات سفر لسبعة أشخاص، هم افراد عائلة سورية هربت من جحيم المعارك في منطقة حمص. نجح على ما يبدو في الحصول على وثائق تعود الى دولة في اميركا اللاتينية. والمجموعة استحصلت على اذونات بالسفر بالهويات السورية الى دولة اقليمية ومن هناك شدوا الرحال نحو هذه الدولة البعيدة، حيث يأملون لقاء افراد من عائلاتهم سبق ان هاجروا قبل عقود طويلة.
سألت جاك المساعدة في الحصول على وثائق لعائلة فلسطينية هربت من مخيم اليرموك في سوريا، وانفقت ما كان معها من اموال في احدى المناطق اللبنانية. سألني عن وجهة الاستخدام. هل هي للسفر الى بلد بعيد، ام للتحرك بحرية بين لبنان وسوريا ودول عربية اخرى، ام ماذا؟
اجبته بأن هؤلاء يريدون العودة الى فلسطين، وان الامر بات ممكنا الآن من ناحية مصر. وان هذه العائلة توافق على العيش ولو بصورة لاجئ، لكن داخل فلسطين التاريخية بعد ستين سنة من التهجير بين الاردن ولبنان وسوريا، وانها تملك الفرصة لاستئجار شقة صغيرة داخل القطاع، ولدى الزوج والزوجة واحد الابناء مهن صالحة للعمل في اي مكان في العالم. ويمكن لهم تدبر امورهم بعد الاستقرار في القطاع. وان المطلوب الحصول لهم على وثائق تتيح لهم ليس الوصول الى مصر فحسب، بل الدخول الى القطاع ولو كسائحين، حيث حصل الامر مع كثيرين. وانهم عندما يصلون وينامون ليلتهم الاولى في منزلهم، سيعمدون الى تمزيق هذه الوثائق والتوجه الى الجهات الرسمية في القطاع لطلب الحصول على اوراق تتيح لهم التحرك، ومعهم ما يثبت انهم من بلدة فلسطينية في منطقة عكا، ولديهم اقارب هناك ايضا. وان احد اولاد العم يعيش اصلا في قرية بقضاء نابلس. ثم انهم ليسوا منتمين الى احزاب فلسطينية. كان الجد نصيرا لحركة فتح، لكن الابن والاحفاد بدوا بعيدين عن النشاط لاسباب غير واضحة. ولو انهم مثل اي فلسطيني، يقبلون بالركض خلف كل من يعيدهم الى بلدهم.
لم يناقش جاك كثيرا في الامر، قال انه سيقوم بما يقدر عليه، ولكن المفاجأة كانت في انه اشترط عدم الحصول على مقابل في حال وصلت العائلة فعلا الى قطاع غزة. وقال انه مستعد للتبرع بألف وثيقة اذا كان الامر يساعد الف شخص فلسطيني بالعودة الى ارض فلسطين التاريخية. هو يعرف ان هؤلاء قد لا يعودون الآن الى قراهم الاصلية في مناطق الـ 48. لكنه قال ممازحا: «هذه افضل طريقة في التعبير عن عدم ترحيبي بهؤلاء في لبنان، فلا انا مضطر لمقاتلتهم وكرههم والتحذير منهم، ولا انا مستعد لأن أتهم بالعنصرية ان دعوت الى تدبير امورهم بعيدا عن لبنان، هكذا اكون قد تخلصت من عبئهم، وهم عادوا الى بلدهم… اليس حق العودة هو الشعار المركزي لكل لاجئ فلسطيني في العالم؟».
العملية قيد الانجاز، ويفترض، اذا سارت الامور كما يجب، ان تكون قد تحولت الى حقيقة خلال شهرين على ابعد تقدير، اما العقبات فهي محصورة حتى الان بثلاثة عوامل:
الاول، ان تصل اسرائيل الى قرار بمنع عودة الفلسطينيين حتى الى قطاع غزة، وتبادر الى خطوات سياسية او لوجستية او حتى امنية لمنع الامر.
الثاني، ان تمنع السلطات المصرية هذه العائلة من الدخول الى القاهرة، وهو امر مستبعد من الناحية المنطقية والقانونية، لكنه ممكن من الناحية الامنية.
الثالث، ان تمنع سلطات حماس في القطاع العائلة من الدخول الى الاستقرار في القطاع. وهو امر يفترض انه مستبعد ايضا لاسباب وطنية واخلاقية ودينية وسياسية.. وانسانية!
اثناء انجاز هذه العملية التي تساوي قيمتها الفعلية الف عملية عسكرية ضد اسرائيل، سارع اصدقاء الى مفاتحتي في فكرة فتح صندوق مالي، يجمع التبرعات التي تتيح جمع المبالغ المطلوبة لانجاز عمليات شبيهة وهذا هو سبب نشر هذه الرواية، الذي يبدو انه لن يعطل العملية.
غير أن السؤال الذي يقلقني هو: كم عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين يقبلون القيام بمثل هذه المغامرة، غير المحفوفة بمخاطر كبيرة؟
وسؤالي مرده الى استغرابي، لا بل جنوني، من قيام نشطاء في حركة «حماس»، يقيمون في لبنان ومصر، بالانتقال الى غزة قبل اسابيع لتهنئة الاهل هناك بالانتصار، ثم ما لبثوا ان عادوا، لماذا؟ يقولون انهم مشغولون بمهمات نضالية، لكن حقيقة الامر، انهم لا يعملون شيئا سوى متابعة (وبحماسة فائقة) نشر وحث كل ما يزيد في لهيب جحيم سوريا باسم مناصرة الثورة هناك… او طلب محاكمة جبران باسيل!
اي عقل واي قلب يحمل هؤلاء؟
الهجرة المعاكسة … الى فلسطين
في احدى الشقق المنزوية في منطقة الدورة، يقدم لك جاك (اسم مستعار) الخدمات التي لا تنسى. باسبورات وهويات وأوراق رسمية مزورة، تعود لجنسيات عربية وافريقية ومن اميركا اللاتينية وبعض دول اوروبا الشرقية. والبدلات تتراوح بين الف وخمسة الاف دولار لكل وثيقة. وهو مستعد، لكن من دون ضمانة، لان يحاول تأمين وثيقة تخص احدى الدول الاوروبية أو الاميركية الشمالية، مقابل بدل اولي قيمته عشرة الاف دولار. لكنه لا يضمن لك استعادة المبلغ او الحصول على الوثيقة. وهو يصارحك بأنه نجح في اربعين في المئة من محاولاته مع الدول المتقدمة، وبرأيه المسألة مرتبطة بالحظ ليس اكثر.
جاك كان مشغولا قبل مدة في تزوير جوازات سفر لسبعة أشخاص، هم افراد عائلة سورية هربت من جحيم المعارك في منطقة حمص. نجح على ما يبدو في الحصول على وثائق تعود الى دولة في اميركا اللاتينية. والمجموعة استحصلت على اذونات بالسفر بالهويات السورية الى دولة اقليمية ومن هناك شدوا الرحال نحو هذه الدولة البعيدة، حيث يأملون لقاء افراد من عائلاتهم سبق ان هاجروا قبل عقود طويلة.
سألت جاك المساعدة في الحصول على وثائق لعائلة فلسطينية هربت من مخيم اليرموك في سوريا، وانفقت ما كان معها من اموال في احدى المناطق اللبنانية. سألني عن وجهة الاستخدام. هل هي للسفر الى بلد بعيد، ام للتحرك بحرية بين لبنان وسوريا ودول عربية اخرى، ام ماذا؟
اجبته بأن هؤلاء يريدون العودة الى فلسطين، وان الامر بات ممكنا الآن من ناحية مصر. وان هذه العائلة توافق على العيش ولو بصورة لاجئ، لكن داخل فلسطين التاريخية بعد ستين سنة من التهجير بين الاردن ولبنان وسوريا، وانها تملك الفرصة لاستئجار شقة صغيرة داخل القطاع، ولدى الزوج والزوجة واحد الابناء مهن صالحة للعمل في اي مكان في العالم. ويمكن لهم تدبر امورهم بعد الاستقرار في القطاع. وان المطلوب الحصول لهم على وثائق تتيح لهم ليس الوصول الى مصر فحسب، بل الدخول الى القطاع ولو كسائحين، حيث حصل الامر مع كثيرين. وانهم عندما يصلون وينامون ليلتهم الاولى في منزلهم، سيعمدون الى تمزيق هذه الوثائق والتوجه الى الجهات الرسمية في القطاع لطلب الحصول على اوراق تتيح لهم التحرك، ومعهم ما يثبت انهم من بلدة فلسطينية في منطقة عكا، ولديهم اقارب هناك ايضا. وان احد اولاد العم يعيش اصلا في قرية بقضاء نابلس. ثم انهم ليسوا منتمين الى احزاب فلسطينية. كان الجد نصيرا لحركة فتح، لكن الابن والاحفاد بدوا بعيدين عن النشاط لاسباب غير واضحة. ولو انهم مثل اي فلسطيني، يقبلون بالركض خلف كل من يعيدهم الى بلدهم.
لم يناقش جاك كثيرا في الامر، قال انه سيقوم بما يقدر عليه، ولكن المفاجأة كانت في انه اشترط عدم الحصول على مقابل في حال وصلت العائلة فعلا الى قطاع غزة. وقال انه مستعد للتبرع بألف وثيقة اذا كان الامر يساعد الف شخص فلسطيني بالعودة الى ارض فلسطين التاريخية. هو يعرف ان هؤلاء قد لا يعودون الآن الى قراهم الاصلية في مناطق الـ 48. لكنه قال ممازحا: «هذه افضل طريقة في التعبير عن عدم ترحيبي بهؤلاء في لبنان، فلا انا مضطر لمقاتلتهم وكرههم والتحذير منهم، ولا انا مستعد لأن أتهم بالعنصرية ان دعوت الى تدبير امورهم بعيدا عن لبنان، هكذا اكون قد تخلصت من عبئهم، وهم عادوا الى بلدهم… اليس حق العودة هو الشعار المركزي لكل لاجئ فلسطيني في العالم؟».
العملية قيد الانجاز، ويفترض، اذا سارت الامور كما يجب، ان تكون قد تحولت الى حقيقة خلال شهرين على ابعد تقدير، اما العقبات فهي محصورة حتى الان بثلاثة عوامل:
الاول، ان تصل اسرائيل الى قرار بمنع عودة الفلسطينيين حتى الى قطاع غزة، وتبادر الى خطوات سياسية او لوجستية او حتى امنية لمنع الامر.
الثاني، ان تمنع السلطات المصرية هذه العائلة من الدخول الى القاهرة، وهو امر مستبعد من الناحية المنطقية والقانونية، لكنه ممكن من الناحية الامنية.
الثالث، ان تمنع سلطات حماس في القطاع العائلة من الدخول الى الاستقرار في القطاع. وهو امر يفترض انه مستبعد ايضا لاسباب وطنية واخلاقية ودينية وسياسية.. وانسانية!
اثناء انجاز هذه العملية التي تساوي قيمتها الفعلية الف عملية عسكرية ضد اسرائيل، سارع اصدقاء الى مفاتحتي في فكرة فتح صندوق مالي، يجمع التبرعات التي تتيح جمع المبالغ المطلوبة لانجاز عمليات شبيهة وهذا هو سبب نشر هذه الرواية، الذي يبدو انه لن يعطل العملية.
غير أن السؤال الذي يقلقني هو: كم عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين يقبلون القيام بمثل هذه المغامرة، غير المحفوفة بمخاطر كبيرة؟
وسؤالي مرده الى استغرابي، لا بل جنوني، من قيام نشطاء في حركة «حماس»، يقيمون في لبنان ومصر، بالانتقال الى غزة قبل اسابيع لتهنئة الاهل هناك بالانتصار، ثم ما لبثوا ان عادوا، لماذا؟ يقولون انهم مشغولون بمهمات نضالية، لكن حقيقة الامر، انهم لا يعملون شيئا سوى متابعة (وبحماسة فائقة) نشر وحث كل ما يزيد في لهيب جحيم سوريا باسم مناصرة الثورة هناك… او طلب محاكمة جبران باسيل!
اي عقل واي قلب يحمل هؤلاء؟