“الناتو العربي”: عن الحلم الأميركي القتيل في سوريا
موقع قناة الميادين-
جو غانم:
لم يستطع أوباما تحقيق هذا الهدف حينذاك، نظراً إلى النكسة التي منيَ بها “الربيع العربي” الأميركي.
عبثاً يجهد بعض المحلّلين والمتابعين والخبراء العرب الذين يعملون لدى الأنظمة العربية التي تتعهّد تسيير أعمال واشنطن القذرة في المنطقة، في محاولة تسويق فحوى الإعلان الأخير الذي أطلقه العاهل الأردني عبد الله الثاني، والذي تحدّث فيه عن قيامة “الناتو العربي”.
الضابط والخبير الاستراتيجي الأردنيّ النّشط جدّاً على الشاشات العربيّة في الآونة الأخيرة يرى أنّ أهمّ مبررات وجود هذا الحلف العتيد والضروريّ والمُلحّ، هو أنّ إيران “دولة لا تصلّي على النبيّ”، والدليل لديه أنّ “ميليشياتها” تعمل مع الجيش العربي السوريّ في “تهريب المخدرات والأسلحة إلى الأردن”، وبالتالي إنّ بلاده في خطر كبير يستدعي خروج ملكها في الإعلام، لإعلان الحلّ النهائي لكلّ مشاكل الدول العربية التي تظلمها وتعتدي عليها إيران وسوريا وجميع قوى المقاومة في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله.
والرجل، كما باقي الجوقة الإعلامية المُسخّرة لتبرير مسألة “الذلّ العربيّ” هذه، يرى أنّ “إسرائيل” لم تعُد تُشكّل خطراً على الدول العربية منذ توقيعها اتفاقيات تطبيع مع مصر والأردن، ثم تطبيعها مؤخّراً مع باقي القطيع العربي الأميركي، وبالتالي لا شيء يستوجب السؤال عمّا إذا كان هذا الحلف موجّهاً ضدّها أيضاً، حتى باعتبارها خطراً افتراضياً.
لنبقَ عند مسألة أولئك الذين “لا يُصلّون على النبي”، والتي كرّرها الرجل 3 مرّات في حديثه، وهو يتوجّه بأصابع الاتّهام إلى طهران وحلفائها المقاومين العرب، لأنّ هذه المسألة تختصر، كما يبدو في أروقة الحكم الأردنيّ، كلّ المشاكل التي تعانيها الدول العربية، فالعاهل الأردني يعتبر نفسه حفيد النبيّ العربيّ، وبالتالي هو موكلٌ بهذه القضية بشكل مباشر، إلى الدرجة التي تجعل واشنطن تنصاع إلى رمزيّته تلك، وتطلب منه في كلّ مرّة أنْ يُعلن شخصيّاً افتتاح كلّ مشاريعها التدميرية والتخريبية الموجّهة ضد أمّة النبيّ محمّد (عليه الصلاة والسلام)، والتي يقف الشعب العربيّ في الأردن في طليعة الرافضين لها والمقاتلين ضدّها، ويسخر من مبرّراتها الواهية.
وبعيداً عن السؤال عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء اختيار ملك الأردن تحديداً ليعرض الإعلانات الأميركية الموجّهة ضدنا كلّ مرّة، فإنّ الإعلان نفسه تأخّر كثيراً، فقد كان من المفترض أنْ يُدشّن الرئيس الأسبق باراك أوباما هذا المشروع الأميركيّ الذي يحمل بين طيّاته الكثير من المعاني الاستراتيجية الخاصّة بمنطقتنا العربية، والمتعلّقة بحماية المصالح الأميركية والمصلحة العليا لكيان الاحتلال الإسرائيليّ على وجه الخصوص.
لم يستطع أوباما تحقيق هذا الهدف حينذاك، نظراً إلى النكسة التي منيَ بها “الربيع العربي” الأميركي الذي اعتمد على “الإخوان المسلمين” بشكل رئيسيّ، وانهماك الأدوات العربية في مصر والخليج والأردن في صراعٍ داخليّ وبينيّ على درء هذا الخطر، وفي السباق على الفوز بحصرية الوكالة عن المستعمر الأميركيّ في المنطقة، وهنا نضيف تركيا إلى قائمة المتسابقين.
تقدّم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وصهره جاريد كوشنر على هذا المسار بقوّة، ودفعا باتّجاه تحقيق الهدف الأميركيّ وتشكيل ما أسمياه “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” (الناتو العربي أو “ميسا” في الاختصار الإنكليزي)، والذي استهدف في الدرجة الأولى تعويض الانهماك المباشر للولايات المتحدة الأميركية في مشاكل المنطقة، وإيجاد “جسم” سياسيّ وعسكريّ وأمنيّ يمكنه أنْ يحفظ مصالحها ويُيسّر مشاريعها، على أنْ تكون “تلّ أبيب” هي الرأس والقلب، في حين يقوم الذيل العربيّ بتأمين كلّ مستلزمات قوة هذا الحلف، عن طريق الاستمرار في شراء الأسلحة الأميركية وتجهيز العديد العسكريّ والاستخباري والإعلاميّ للتجييش والقتال والتسويق والتخريب، في الوقت الذي تتفرّغ الولايات المتحدة وتصبّ جهدها الرئيسي في مواجهة الخطر القادم من جهة الصين وروسيا، فيما يشتغل هذا “الحلف” في مواجهة إيران وسوريا وحركات المقاومة في فلسطين المحتلة والمنطقة العربية، ويمكن لواشنطن أنْ تحضر بصواريخها الاستراتيجية الجاهزة عند الحاجة.
رغم كل ذلك، فإن معوقات كثيرة منعت الإخراج النهائي لهذا الفيلم الأميركيّ الجديد، أبرزها الخلافات البينيّة بين الأدوات، وخشية بعض الدول العربية (مثل مصر والأردن والكويت وقطر) من تظهير العداء المباشر لإيران، إذ لم تجد تلك العواصم مصلحةً لها في هذا الأمر، خصوصاً أنّ بعضها استشعر خطراً يأتي من جهة أخرى، كحال قطر والكويت اللتين وجدتا نفسيهما أمام محاولات هيمنة غير مسبوقة من الرياض وأبو ظبي، ثم مصر التي رأت أنّ تاريخها السياسيّ وخبرتها العسكريّة يخوّلانها ـ هي لا الرياض ـ قيادة أيّ حلف كهذا.
أضف إلى هذا كلّه، تقدّم دمشق ومحور المقاومة على الأرض السورية وفي العراق، وحضور روسيا المفاجئ والقويّ إلى المنطقة من البوابة السوريّة، ثمّ تحوّل الحرب على اليمن إلى كارثة حقيقية على المعتدين، إذ استطاع المقاوم اليمنيّ الباسل تعرية هذه القوى المدججة بالسلاح والأموال والدّعم الغربي والإسرائيلي، وملاحقة الجنود السعوديين إلى داخل أراضي المملكة، وتحويل كنوز النفط الغالية جدّاً على قلوب الأميركيين والغرب إلى كتلِ نار ملتهبة.
بعد كلّ هذا، بدا أنّ الانكفاء الأميركيّ عن منطقتنا بات أقرب إلى الانسحاب التدريجيّ أمام تقدّم محور أعداء واشنطن، بل إنّ التخبّط الذي أظهرته الولايات المتحدة بوضوحٍ خلال السنة الأولى من حكم إدارة الرئيس جو بايدن، ومحاولاتها إعادة العمل بالاتفاق النووي مع إيران، دفعَ الأدوات العربية إلى حالة من الهلع، أخذت بعضها نحو الارتماء بقوة ووقاحة مُذلّةٍ في الحضن الإسرائيليّ، إذ أقنعتهم “تلّ أبيب” بأن لا نجاة لهم سوى في اللجوء إلى حمايتها، وأنّها الوكيل الأميركيّ الذي لا يمكن لواشنطن أن تتخلّى عنه.
لكنّ “سيف القدس” هوى بقوّة على رؤوس الإسرائيليين وحلفائهم العرب الجدد، وظهر للجميع أنّ محور المقاومة أقوى بكثير مما اعتقد هؤلاء، وأنّ أي معركة مع العدو الإسرائيليّ سوف تحطّم هذا الكيان المؤقّت، بعد أنْ تأخذ الطيف الأوسع من الشارع العربي إلى ضفة فلسطين خلال ساعات، فهرعت بعض تلك العواصم باتّجاه التفاوض مع طهران من جهة، ومحاولات التقارب مع سوريا لإبعادها عن طهران من جهة أخرى (وهو مشروع إسرائيليّ عملت عليه بعض الدول الخليجية والعربية وأفشلته دمشق)، أو لحاجة بعض هذه الدول إلى الحضور السوريّ القويّ لدى طهران، للمساعدة في التوصّل إلى ربط النزاعات مع الأخيرة.
لكنّ الهجوم الدفاعيّ الروسيّ الكاسح في أوكرانيا، والتقدّم الصينيّ على الجبهة الاقتصادية مع موسكو وبعض العواصم العالمية التي ضاقت بصلف الدولار الأميركيّ وحصاراته، أيقظا جو بايدن بقوّة، ودفعاه نحو الهجوم الاقتصاديّ والسياسيّ والإعلاميّ بشكلٍ لا يقلّ تخبّطاً عن مرحلة الانكفاء، فيما اقتصر هجومه على الجبهة العسكريّة، وعلى القتال بالأجساد الأوكرانية.
واستطاع بايدن بسهولة إعادة الحرارة الأميركية إلى أجساد تلك الأنظمة العربية، لتعود الخراف إلى الحظيرة من دون حاجة إلى التلويح بالعصا “الترامبيّة” الشهيرة، إلى أنْ خرج العاهل الأردني قبل أيام ليعلن عن “الناتو العربي”، الذي يعني أنّ المنطقة العربية عادت إلى الواجهة كساحة قتال أميركية ضد إيران وسوريا وحركات المقاومة وروسيا والصين، لكنْ بأجساد وأموال عربية.
ولهذا الهدف، كانت وزارة الدفاع الأميركية قد جمعت في منطقة شرم الشيخ المصرية في آذار/مارس الماضي قادة الجيوش في السعودية ومصر والأردن وقطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة مع رئيس أركان “جيش” الاحتلال الإسرائيلي أفيف كوخافي، لتشكيل حلف عسكري تحت عنوان “مواجهة الخطر الإيراني”.
بعد ذلك، أوعزت واشنطن إلى أدواتها العربية كي تنصب بطاريات أميركيّة لاعتراض الصواريخ في الأردن (على الحدود السورية والعراقية)، وفي البحرين والإمارات.
وكانت قبل ذلك أعلنت توسيع مظلّة “المنطقة الوسطى للقوات الأميركية” لتضمّ “جيش” الاحتلال الإسرائيلي مع جيوش تحت الدول. وأخيراً، وضع “البنتاغون” أنظمة تلك الدول في صورة احتمال حصول تصعيد عسكري كبير في المنطقة يرقى إلى الحرب بين إيران و”إسرائيل”، وأنّ على الجميع الوقوف على أهبة الاستعداد.
لا ندري على ماذا تعوّل الأدوات العربية من هذا المشروع الأميركي المولود ميتاً، الذي لا تستطيع واشنطن، بأيّ حال من الأحوال، أنْ تؤمّن له أسباب الحياة والقوة، فحرب السنوات العشر التي جرت على الأرض السورية كفيلة وحدها بإعطاء هؤلاء درساً عن المعادلات والمفاهيم الاستراتيجية السياسية والعسكرية التي غيّرها وأرساها حلف دمشق الذي خرج من تلك الحرب العالمية المصغّرة قوّة صاعدة كبيرة لا يمكن الاستهانة بها أو مواجهتها بأدوات متهالكة هي نفسها الأدوات التي خاضت الحرب نفسها وخسرتها أمامه، أي أنّ “الناتو العربي” قاتلَ – قبل أنْ يحمل اسمه – في سوريا بكل ما يستطيع من قوة، بقيادة الولايات المتحدة نفسها ومشاركة فعالة من الكيان الصهيوني.
وكانت النتائج أنّ محور المقاومة اختار الذهاب إلى أبعد من النصر في هذه الحرب، ليستعد لحرب أكبر يراها محتومة ومصيرية مع الكيان الصهيوني بشكل مباشر. وقد جنّد لها ووفّر كل أسباب النصر.
أما روسيا، فهي تحضر هذه المرّة كأحد أطراف القتال في أيّة حرب شاملة تديرها الولايات المتحدة في هذه المنطقة من العالم، ليس لأنها حضرت إلى المنطقة لهذا الغرض، بل لأنّ تفجير الساحات في وجه موسكو هو واحد من أهم الأهداف الأميركية حول العالم، والروس يدركون ذلك جيّداً، بل أخبروا حلفاء واشنطن الكرد في القامشلي بأنّ خروج أميركا من الشرق السوري بات على رأس أولويّاتهم.
المثير للسخرية هنا أنّ هؤلاء العرب لم يتعلّموا أبداً من دروس الماضي والحاضر، ليس لأنهم أغبياء أو جهلة، بل لأن لا قرار لعبيد واشنطن ولا إرادة، ولو ساقتهم الأخيرة إلى الذبح.
هم لا يريدون الانتباه إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تلك القوة الوحيدة المتفرّدة التي كانت يوم اجتاحت العراق ودمّرته، ويوم بدأت مشروع “الربيع العربي” لتغيير المنطقة كما تريد.
لم ينتبهوا إلى أنّ سوريا وإيران وحزب الله والقوات اليمنية والحشد الشعبيّ العراقي كانوا في فلسطين إلى جانب إخوتهم المقاومين يوم “سيف القدس” الذي غيّر معادلات الصراع داخل الأرض المحتلة، وأنهم لا يفعلون شيئاً سوى السير بثبات كل يوم في الطريق ذاته الذي يوصل إلى ميدان تلك المعركة الأخيرة لأجل تحرير فلسطين، والتي يريدونها قريبة جدّاً، وأنّ هذا الحلف القويّ بات جزءاً من قوة عالمية صاعدة اتّخذت قرارها بإزاحة الإمبراطورية المريضة عن صدر العالم الذي اختنق بالوحشية الأميركية والإسرائيلية.
الأدهى من هذا كلّه أنّ هؤلاء العرب لم ينتبهوا حتى اللحظة إلى أنّ “الناتو العربي” هذا قُتل رمياً بالرصاص على كلّ الجبهات السورية والفلسطينيّة.