المُقاطعة.. مُقاومة
صحيفة السفير اللبنانية-
هاني المصري
خلال الأيام الماضية، عاشت إسرائيل حالة قلق شديد جرّاء تزايد المقاطعة لها، لدرجة أن شركة «أورانج» الفرنسية أوقفت عقدها مع شركة «بارتنر» الإسرائيلية، ما أثار حملة إسرائيلية كبرى شاركت فيها الحكومة وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، استهدفت الضغط على الحكومة الفرنسية التي تملك 25 في المئة من أسهم «أورانج». وقد أدى ذلك إلى تراجع الشركة عن قرارها بوقف عملها في إسرائيل. لكن القضية لم تنته والمعركة مستمرة، حتى تتراجع «أورانج» عن قرارها الأخير.
وخلال الأسبوع الماضي، قابل رؤساء الجامعات العبرية الرئيس الإسرائيلي، وأكدوا له أن المقاطعة الأكاديمية للجامعات العبرية وصلت إلى مرحلة خطيرة، وشددوا على ضرورة أن تتحرك إسرائيل فوراً لإجهاضها.
كما خصصت الحكومة الإسرائيلية اجتماعاً لبحث المقاطعة وكيفية مواجهتها، وقررت مضاعفة الأموال المرصودة لمكافحتها، إضافة إلى تنظيم حملة تبرعات من أصدقاء إسرائيل، يغطي تكلفة ما رصدته الموازنة الإسرائيلية لهذا الغرض على أقل تقدير.
وتضع الحكومة الإسرائيلية المقاطعة على مستوى الأهمية والخطورة نفسها كـ «الإرهاب». وتركز في تصديها لها على اعتبار أنها شكل من أشكال معاداة السامية التي تستهدف «دولة اليهود»، وهذا ادعاء باطل، لأن بعض قادة المقاطعة من اليهود أصلاً. كما تركز الحملة الإسرائيلية المضادة على اعتبار أن المقاطعة تستهدف نزع الشرعية عن إسرائيل، فضلاً عن تدميرها ومحوها من الوجود.
تنبع أهمية المقاطعة من كونها تركز على نقطة ضعف إسرائيل، التي تسوّق نفسها كواحة للحضارة والديموقراطية التي تحترم حقوق الإنسان وحرياته، وتلتزم بالقانون الدولي والشرعية الدولية، علماً أن كل ما تقوم به من قتل وحصار وتدمير وتمييز عنصري، مخالف للقانون والقيم، وهو ليس «دفاعاً على النفس» كما تدعي.
أما نقطة قوة الكفاح الفلسطيني، فهي استناده إلى قضية عادلة ومتفوقة أخلاقياً، وإلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، برغم أنها لا تتضمن سوى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. لذلك، فالمقاطعة شكل من أشكال المقاومة التي تضغط بشدة على نقطة الضعف الإسرائيلية، ويمكن أن تحقق نجاحات نوعية تغيّر الكثير من المواقف، إذا ما تم التعامل معها كأداة استراتيجية فلسطينية طويلة الأمد، لا مجرد وسيلة تكتيكية ترمي إلى الضغط من أجل تحسين شروط حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، أو تحسين شروط المفاوضات التي لن تنهي الاحتلال ما دامت لا تستند إلى أوراق قوة يحملها المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المباحثات.
ويخشى قادة إسرائيل من تزايد مطّرد في حملة المقاطعة، ومن احتمال تحقيقها المزيد من النجاحات في ظل تحول كبير في اتجاهات الرأي العام الدولي، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة، لغير مصلحة الدولة العبرية. فإسرائيل ترى أنها خسرت أوروبا وكثيراً من الجامعات الأميركية، وتخشى أن التحول في الرأي العام سيُحدث عاجلًا أم آجلاً تحولاً مماثلاً لدى الحكومات.
ومن الأمثلة على نجاح حركة المقاطعة في الفترة الأخيرة، قرار «الاتحاد الوطني للطلبة» في بريطانيا الذين يمثل 7 ملايين طالب مقاطعة إسرائيل. ومنها قرار شركة «فيوليا» الفرنسية العملاقة بيع معظم أعمالها في دولة الاحتلال بعد خسارتها لعقود بمليارات الدولارات جراء حملة المقاطعة ضدها حول العالم.
وبرغم النجاحات التي حققتها حملة المقاطعة، إلا أن إسرائيل توظف قوتها وتسعى لتجنيد أصدقائها وحلفائها لإحباطها، وقد حققت في ذلك نجاحات مهمة، تمثلت بإقناع الكونغرس الأميركي ومجلس النواب الكندي وغيرهما من برلمانات العالم، بسنّ قوانين تُجرّم الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل، وتعتبرها شكلاً من أشكال معاداة السامية. وقد تضمنت هذه القوانين إجراءات لمعاقبة دعاة المقاطعة والمشاركين فيها.
يفترض بالفلسطينيين وأصدقائهم بذلُ المزيد من الجهود واستثمار موارد وطاقات أكبر لإنجاح حملات المقاطعة، ومن ذلك زج القيادة الفلسطينية في السلطة و «المنظمة» بكل طاقاتها في هذه المعركة، بدل التعامل معها على استحياء وعدم التدخل عندما يفترض بها أن تفعل ذلك، كما حدث بعد تراجع شركة «أورانج» عن قرارها بعد ضغط الحكومة الإسرائيلية على نظيرتها الفرنسية، من دون أن يواجَه ذلك بضغط مماثل من قبل الحكومة الفلسطينية.
كما يجب على القيادة الفلسطينية أن تعمل على إقناع الحكومات العربية بدخول معركة المقاطعة، لأنها إحدى الأدوات البارزة لإحداث تغيير في موازين القوى، يوقف الزحف الاستيطاني العنصري وسائر المخططات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة وداخل أراضي 48، ويفتح نافذة لفرض تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، علماً أن تسوية كهذه لن تتحقق في ظل استمرار الرهان على المجتمع الدولي وحده، أو على المفاوضات حصراً، أو على «الضغط الأميركي» على إسرائيل.
تبقى نقطة مهمة: هل يجدر بالمقاطعة أن تقتصر على ما يخرج عن الاحتلال والاستيطان، من دون أن تمس بشرعية إسرائيل، أم لا بد أن تكون شاملة على اعتبار أن إسرائيل دولة قامت على أنقاض شعب آخر، وهي تتابع عملية اقتلاعه من أرضه، وترفض كل ما يردُ في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي من شأن تطبيقها أن يفتح الطريق لحل مرضٍ للقضية الفلسطينية.
من يفضل الاكتفاء بمقاطعة منتجات المستوطنات، فليفعل. لكن في رأينا أن المقاطعة لن تعطي أكلها إن لم تصل إلى الكل الإسرائيلي. حينها، ستشعر إسرائيل بأنها ملاحقة ومعرضة للعزلة والعقوبات والمحاكم على جرائمها السابقة والمستمرة. فالكيان القائم على الاحتلال والاستيطان والعنصرية وصاحب المشروع الاستعماري الذي ما زال مفتوحاً ولم يغلق، لا يمكن التسليم بشرعيته.