المياه هي الخطر القادم
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
مصطفى الفقي:
سأغرد خارج السرب، سأتحرك خارج الصندوق، سأخرج من النفق المظلم، فلقد استبد بي الاكتئاب وأصابني الملل من الأحداث اليومية في بلادي، وأصبح من المتعين علي أنا وغيري أن نفكر في الهموم الحقيقية والمخاطر القادمة، لقد طالعت إحدى الصحف وهي تشير في عنوانها الرئيس إلى أن هناك مشروعات “إسرائيلية” و”تركية” و”صينية” و”إيطالية” لإنشاء قنواتٍ ومجار ملاحية لإنهاء قيمة “قناة السويس” مع عام ،2020 وكنت قرأت أيضاً الخطاب الذي ألقاه الأمير خالد بن سلطان نائب وزير الدفاع السعودي في مؤتمر “المجلس العربي للمياه” الذي انعقد في القاهرة برئاسة الدكتور محمود أبو زيد وزير الري المصري الأسبق، حيث تحدث الأمير السعودي عن “سد الألفية أو النهضة” الذي بدأت إثيوبيا في إنشائه واعتبرته مشروعًا وطنيًا لا يقل في أهميته والحماسة له عن السد العالي أيام الرئيس الراحل عبد الناصر، وقد علمت أن تكلفة ذلك السد الضخم قد تزيد على خمسة مليارات دولار، وقد دبر الإثيوبيون منها قروضاً بالفعل تقترب من المليار الأول واستكملوا الأعمال المبدئية للمشروع بما يوازي 13% من حجم أعماله الكلية، وهم يلقون في ذلك دعماً من دول مثل إيطاليا وكندا والصين بل الولايات المتحدة الأمريكية وبرعاية “إسرائيلية” بالطبع .
ولسوف أركز في مقالي على هذا الخطر القادم تاركًا موضوع الأهمية الاستراتيجية والجدوى الاقتصادية لقناة السويس لمناسبة أخرى . لقد امتلك الأمير السعودي البارز الشجاعة لكي يقول إن هذا المشروع يمكن أن يؤدي إلى إغراق العاصمة السودانية ذاتها، بل لقد ذهب بعض الباحثين إلى القول إن إتمامه واحتجاز مليارات الأمتار المكعبة من المياه خلفه والتحكم في حجم مياه النهر الواردة إلى دول المجرى والمصب قد يغير الفصول الزراعية في مصر التي عرفها الفلاح في “الدلتا” و”الوادي” منذ العصر الفرعوني .
ولعلي أفصل هنا شارحًا جوانب هذا الأمر الخطير مؤمنًا باحترام سيادة كل دولة من حوض النهر لكن مع التسليم أيضاً بأن دول حوض النهر وحدة متكاملة تشارك في كل قرار وتلتزم به، لقد أعفيت نفسي اليوم من متابعة ما يجري داخل الوطن، لكي أفكر في المخاطر الخارجية داعيًا الجميع إلى الانتباه لذلك، ولعلي أطرح حول موضوع “سد النهضة” الإثيوبي أمرين هما:
* أولاً: إنني من أولئك الذين يعتقدون أن حل مشكلة مياه النيل وتوزيع الحصص لا يمكن أن يتما إلا في إطار “تنموي” شامل بحيث لا تردد دول المنبع تلك المقولة الساذجة من أن المياه منحة من السماء لهم يتحكمون فيها مثلما كان النفط منحة من الأرض للعرب تحكموا فيها . ونحن نضع في الاعتبار أن دول المنبع دول فقيرة اقتصاديًا ومتخلفة تكنولوجيًا، وهي تنظر إلى بعض دول الشمال نظرة لا تخلو من ضيقٍ وشعورٍ بأن تلك الدول تنعم بالمياه من دون أن تعاني مشكلات سقوطها المتدفق، ولا يخالجني الشك في أن الدولة “العبرية” تهمس في أذن بعضهم بهذه المعاني أو ما يزيد، ف”إسرائيل” منذ عقود طويلة تسعى إلى وصول “مياه النيل” إليها، وتسعى لأن تكون شرطي النهر بالتحكم في “المنبع” والضغط على “المصب” سياسياً واقتصادياً، لذلك فإن الحلول المطلوبة لمشكلات مياه النيل والعلاقات بين دول الحوض هي ذات طابع استراتيجي وسياسي يقوم على إمكانية صنع وحدة تنموية تحدث نوعًا من التكامل للنهوض بدول الحوض بغير استثناء مستخدمين الميزة النسبية لكل منها في خدمة بقية الأطراف . إن العلاقات المصرية الإثيوبية ذات حساسيات دفينينة تختلف عن تلك القائمة بين مصر والسودان، فالإثيوبي الأسمر يرى ذاته متميزًا عن “الإفريقي الأسود” ويعتبر أن سمرة لونه تضعه في مرتبةٍ تناطح دول الشمال أو تزيد، فضلاً عن الإحساس المبالغ فيه بتاريخ القوميات والأجناس في تلك المنطقة وفي مقدمتها “الأمهرية” تحديدًا، ونحن نرفض ذلك النمط من التفكير العنصري البغيض إلا أن حساسيات تشوب علاقات مصر بدول الحوض، حتى إن إثيوبيا رفضت في 21 إبريل/نيسان 2011 السماح لمصر بفحص “سد النهضة” إذا لم توقع “القاهرة” اتفاقًا تتخلى بموجبه عن حقها في النقض في شأن توزيع مياه النهر، وفي 16 يونيو/حزيران من العام نفسه وقعت إثيوبيا اتفاقيات الإنشاء مع إيطاليا بقيمة 8 .4 مليار دولار، وأعلن الجانب الإيطالي أن ارتفاع السد سيصل إلى 145 متراً وبطول 1800 متر مع طاقة تخزينية تصل إلى 63 ملياراً مكعباً من المياه وهو ما يعادل كمية المياه المتدفقة سنويًا إلى مصر والسودان من الهضبة الاستوائية .
* ثانيًا: إن الجانب السياسي وراء إنشاء السد يخفي مشاعر مكتومة لم تتمكن الوفود الشعبية التي زارت إثيوبيا وأوغندا من تحطيمها فضلاً عن أفكارٍ راسخة جعلت الأمير السعودي يقول صراحةً: إن إقامة السد الإثيوبي على بعد حوالي اثني عشر كيلومتراً من الحدود السودانية يعد كيدًا سياسيًا أكثر منه كسبًا اقتصاديًا، كما حذّر الأمير في خطابه المهم مما أسماه “الابتزاز المائي” و”القرصنة المائية” اللذين قد يصلان إلى حد “الإرهاب المائي” في شتى صوره، وسوف يؤثر السد الإثيوبي بصورة مباشرة في الري الفيضي في السودان، كما سيقلل من قدرة السد العالي على إنتاج الكهرباء، ويوقف زراعة مليون فدان من الأراضي الزراعية المصرية الحالية الذي يؤدي إلى تشريد 5 ملايين مواطن كما يرى عالم المياه د . مغاوري دياب، واضعين في الاعتبار أن “السد الإثيوبي” سوف يؤدي إلى التحكم في مياه “النيل الأزرق” المصدر الرئيس لحصة “مصر” التي تبلغ حاليًا 5 .55 مليار متر مكعب وهو أمر أوضحه “د .محمد نصر علام” وزير الري الأسبق .
ومع تسليمنا بأن مصر لم توقع الاتفاق الإطاري الذي يسقط الحقوق التاريخية لها في حصة محددة من مياه النهر ولم يشاركها في ذلك الامتناع إلا دولة واحدة هي الكونغو، إلا أن الأمر أكبر من ذلك وأخطر “فمصر” هي المتضرر الرئيس من هذا السد لا لأنها هبة النيل قولاً وفعلاً ولكن لأنه لا يوجد لديها مصدر مائي آخر تعتمد عليه، إذ إن بقية دول حوض النيل لديها مصدر بديل وهو الأمطار بينما الأمر في مصر يجعل مياه النهر الخالد قضية حياة أو موت .
ولعل المبرر الذي دفع الأمير السعودي لإلقاء خطابه الصريح هو تنفيذ إحدى توصيات المؤتمر العربي الأول للمياه الذي انعقد في بغداد في مايو/أيار 2012 بضرورة الدفاع عن الدول العربية في مياهها المشتركة مع دول غير عربية، والقضية هنا أكبر بكثير من العوامل القومية والخلافات السياسية، لأن المخاطر التي تحيط بالكنانة حاليًا أكبر من أن يرصدها عقل ثائر أو فكر متحمس، إنها تريد الأعصاب الثابتة والقرارات الواعية والرؤية الواضحة .
. . إنني أبتعد عن الداخل الذي يدعو إلى الأسى والحزن، وأتطلع إلى الخارج الذي يدعو إلى القلق والحذر، ويلزمنا باتخاذ المبادرات وبناء السياسات وترميم النزاعات، أرجو أن يفيق المصريون قبل فوات الأوان .