المونديال والتطبيع.. أسئلة ضرورية
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
“جهاد التبيين كان جهاد الأئمة، وإحياء أمرهم يتحقق عبر هذا الجهاد” ــ الإمام الخامنئي
في هذه الفترة الحساسة من حياة الأمة العربية، وفي ظل بطولة كبرى تجري على جزء من أرضها، وتشهد كتجمع عالمي – عربي أحوال يقظة إنسانية لشعوبنا، كانت حية طوال الوقت، لكنها، وبعيدًا عن قيود القمع، اندفعت بحماسة دافقة إلى قمة الاهتمامات، وتحوّلت الملاعب الرياضية والشوارع القطرية، ومعها العربية، إلى إعلان موقف مناهضة وعداء كاملين للتطبيع والكيان الصهيوني.
بالطبع فإن الشعوب العربية لم تتحول حتى اللحظة على الأقل إلى أمة واحدة تملك قرارها أو تستطيع ترجمة إرادتها إلى فعل كامل، سواء كان ذلك ضد أعدائها أو ضد حكوماتها الساقطة في حبائل الخيانة والتطبيع، لكنها أيضًا رفضت أن تكون كرة بين أقدام اللاعبين، تركلها من جديد إلى بعيد كلما وصلت إليها، أو اقتربوا هم منها.
اتفقت الشعوب العربية، وحرص المشجعون ممن حضروا المونديال على رفع علم فلسطين كتميمة عهد ووفاء، وإذا كان كل تصرف، مهما بدا بسيطًا أو لحظيًا، تعبيرًا عن إرادة إنسانية، وهي بالضرورة فعل يصنعه المبدأ والاختيار، ثم هو حتى إن كان غير قادرًا ولا مؤثرًا بفعل القيود والأغلال الثقيلة لمعادلات القوة والوزن القائمة، يبقى ترجمة أمينة للتوجه الصحيح للشعوب العربية والإسلامية، وأصدق الأقوال عن بوصلتها وأولويات قضاياها، وما تريده لحاضرها ومستقبلها.
كان العلم الفلسطيني هو الحدث الأبرز في أهم محافل كرة القدم العالمية، ولعدة أسابيع استطاع أن يلفت الانتباه إلى ترديد اسم الدولة العربية المحتلة في مشارق الأرض ومغاربها، وكان بالضبط مثلما وصفه أحد المراسلين الأوروبيين من قطر، المنتخب رقم 33 في البطولة الكبيرة، وصاحب أكبر جمهور في الملاعب التي احتضنت المنافسات.
ثم أضافت معجزة تألق فريق المغرب العربي إلى البطولة نكهتها الخاصة، فإذا بالفرحة تدب في كل شارع عربي وكل مدينة، وبين الجاليات العربية الكبرى الموجودة في دول أوروبا، وترسل إشارة متجددة عن أن ما يجمع بيننا كشعوب هو شعور الانتماء الحقيقي والباقي إلى أمة واحدة، وأن رفع العلم الفلسطيني ليس تضامنًا مجردًا مع قضية إنسانية أو تعاطف مع شعب يرزح تحت وطأة الاحتلال السرطاني العنصري، لكنه تضامن مع النفس تحركه قضية ذاتية بالنسبة لكل إنسان يعيش هنا.
وكانت كلاهما، الرسالة والإشارة، ضد حماقة القوة الصهيونية ووراءها خطط الهيمنة الأميركية، تتبعهما أجراس الإنذار المدوية ضد الأنظمة التي اختارت ببلاهة وبلادة مطلقة احتقار خيارات شعوبها وخاصمت آمالها، وسارت بالعكس من كل مبادئها وقضاياها، خصوصًا خلال العامين الماضيين، واللذان شهدا الذرى العالية المخيفة لعملية تطبيع شامل وأهوج بين أغلب الأنظمة العربية والعدو الحقيقي.
وإذا كانت العاطفة الجياشة والمشاعر الموءودة، قد ضغطت بعض الشيء على الأعصاب الحساسة والعارية للبعض، فيكفي هنا أن نطالع تصرفات العدو الصهيوني، تصريحًا وفعلًا، سواء كان عبر الصحافة المنشورة أو عبر تقارير مراكز أبحاثه، أو حتى في تحركات قواته على الأرض، ففيها دلائل لا تقبل الشك على صدق الرواية ودقة التغيير الواقع.
والكيان لا يتصرف مع قضاياه بشكل عفوي أو اعتمادًا على الصدفة، بل لأنه كيان قائم ضد التاريخ وضد الجغرافيا، فإن ما تحركه بالفعل في مواجهة المستجدات هي غريزة البقاء، وهي أبعد بصرًا وأكثر نفاذًا إلى أي تغيير أو تبدل في مواقع القوة والفعل في العالم العربي المحيط به، إذ لا يعد الفشل بالنسبة لهم خيارًا على القائمة، فإنما نفي التهديد أو انتهاء المشروع تمامًا.
كانت حالة العنف الوحشي الذي قابل به الكيان خروج بعض الفلسطينيين المحتفلين بفوز فريق المغرب في دور ربع النهائي لافتة ودالة على رعب حقيقي استولى على كيان العدو من الحقيقة الأساسية التي أفرزها مونديال قطر 2022، وبعيدًا عن الكرة، فإن الشعور الجمعي العربي قد قدم نفسه في مواجهة طوفان القنوات والمراسلين الصهاينة، وبدلًا عن قبول إجراء لقاءات وفتح الباب لنقاشات، كانوا يخططون لها، كان الرفض الشعبي العربي حاسمًا الضربة القاضية على وهم قبول هذا الكيان في يوم ما.
والأخطر هو أن التركيز الإعلامي المكثف على المونديال كشف زيف كل حثالات الحكام العرب ودنائتهم، فليست القضية التي شغلت الجماهير هي الخلافات القطرية الضيقة والتافهة، ولا ما حاولت القنوات القطرية وغيرها أن تصورها في أزمة إيران أو ثورة سوريا، بل كانت القضية فلسطين، فلسطين أولًا وفلسطين دائمًا، هذه هي الحقيقة الوحيدة في الفضاء العربي، أما الحقيقة الثابتة فهي أننا أمة واحدة، يسعدنا فرحنا وتغني له القلوب.
أما ما سيحدث بناء على ذلك، فهو أعظم مخاوف الكيان الصهيوني ورعاته، إذ إن اكتشاف هذه الحقائق في تجمع بشري ضخم ومعبر، جعل من الحل الأول المطروح على ذهنية الأفراد والشعوب هو الوحدة بين أمة واحدة فتتها الاستعمار، ومع مناقشة أوضاع الدول العربية المتدهورة على كل المستويات، وخاصة الفشل الجماعي في حل قضية التنمية والعدالة، وردهما بشكل مباشر إلى تفكك العالم العربي ومؤامرات الغرب، فإن كل قضايانا تدور حتمًا حول فلسطين.
وما طرح هذه الحلول والاقتناع بها في الشارع العربي سوى بداية، بداية وعي وبداية فعل وبداية موقف، وبقدر ما تستطيع النخب -غير المرتبطة بالغرب ــ تأصيل هذه الإجابات وطرحها في كل الأوقات، نستطيع القول أن تغييرًا قادمًا في معادلات القوة والفعل في العالم العربي، وقتها فقط سنكتشف كم كنا أمام كيان هش، أو أوهن من بيت العنكوت، كما وصفه سماحة السيد حسن نصر الله قبل سنوات طويلة.