الممانعة والاعتدال ثوابتٌ ومنطلقات
د. مصطفى اللداوي:
لا شئ يجمع بين معسكري الممانعة والاعتدال سوى العروبة والإسلام، عروبة اللسان وإسلامية الدين، فكلاهما عربي الوجه والشكل واللسان، وإسلامي الديانة والحضارة، وإن كان من بينهم مسيحيون، فإنهم ينتمون في عالمنا العربي إلى الإسلام حضارةً، إلا أنهما يختلفان في كثيرٍ من الأشياء، ويتناقضان في الرؤية والموقف، ولا يتفقان في الأداة والأسلوب، ولا يلتقيان في الغاية والهدف، وليس لهما حليفٌ واحد، ولا يجمعهما إطارٌ مشترك، سوى جامعة الدول العربية التي تعكس الاختلافات أكثر مما تعزز التوافقات، وتظهر العجز أكثر مما تبدي من القدرة، وقد أصبحت منبراً للتنابز بالألقاب، ومنصةً للتراشق بالاتهامات، ومكاناً لإعلان الطرد والاتفاق على الحرمان، وتأكيد المقاطعة وفرض العزلة.
معسكر الممانعة يعتمد المقاومة، ويؤمن بالقوة، ويعد العدة، ويتجهز للمعركة، ولا يتهيب من التضحيات، ولا يخاف من التهديد، ولا يرعبه الوعيد، ويتطلع إلى النصر، وينشد التحرير، ويؤمن بحتمية النصر، وعقائدية المعركة، وأنها قادمة لا محالة، فلا تضعفه العثرات، ولا تكسره السقطات، ولا تيئسه الظروف، ولا يبالي بشعارات التوازن، ولا بمبادئ التكافؤ، بل يقاتل بما أمكن، ويقاوم بما يستطيع، ولكنه يثبت حتى النهاية، فلا ينهار ولا يسلم، ولا يعترف ولا يستسلم، وقد بات يحقق الانتصارات، ويحوز على الفوز، وهو لا يرى حلاً غير تحرير الأرض، وتحقيق العودة، وإقامة الدولة كاملة السيادة، على كامل التراب الوطني للشعب الفلسطيني.
بينما يعتمد معسكر الاعتدال المفاوضات طريقاً وحيداً لتحقيق السلام، واستعادة الحقوق، وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة كيانه الوطني، سواء أكان دولةً كاملةَ السيادة أو منقوصة، بسلاحٍ أو منزوعة السلاح، ولا فرق إن كانت حكماً ذاتياً أو كانتوناً أمنياً، وهي لا تبدِ تمسكاً بحق العودة، وترى أن بالإمكان التفاوض عليه، وإيجادِ حلولٍ له، تريجهم من استمرار الصراع، وتطمئن الكيان الصهيوني من كابوس العودة، وهواجس تزايد أعداد الفلسطينيين على حساب اليهود، ويرى معسكر الاعتدال أن السلام ممكنٌ وغير مستحيل، وأنه لا بد من إزالة العقبات التي تعترض تحقيقه، وتوفير الأسباب التي تضمن فرضه، ولو كانت العقبات قدساً وأقصى، وأرضاً وماءً، وحقوقاً وممتلكات.
ويؤمن معسكر الممانعة أن هزيمة إسرائيل ممكنة، وأن مواجهتها سهلة، وأنها أضعف من تصمد وحدها، أو تواجه دون حلفائها، أو تقاتل بسلاحها أو رجالها، ويؤمن هذا المعسكر أننا نحن العرب والمسلمين قادرين على مواجهتها، وتحدي إرادتها، وكسر شوكتها، وإكراه حلفائها، وإضعاف أنصارها، وتهديد مصالحهم، وإلحاق الأذى والضرر فيما يخصهم، ذلك أنهم يؤمنون بقدراتهم، ويعرفون عزم رجالهم، وإرادة أمتهم، وصلابة عقيدتهم، وصدق نيتهم، وصفاء نفوسهم، وعمق إيمانهم.
بينما يرى معسكر الاعتدال أن هزيمة إسرائيل غير ممكنة، فهي قوية وقادرة، ومتطورة ومتمكنة، وطاغية وظالمة، وأن العرب أضعف من أن يواجهوا، وأعجز من أن يثبتوا، إذ لا قدرة لهم على مواجهة الكيان الصهيوني المدجج بكل أنواع السلاح الحديث والفتاك، والمدعوم أمريكياً وأوروبياً بالسلاح والمال، والمؤيد سياسياً، والمحفوظ بالأحلاف والاتفاقيات الدولية، ما يجعل هزيمته غير ممكنة، والانتصار عليه ضربٌ من الخيال المستحيل، فتراهم لا يثقون في أنفسهم، ولا يحسنون تقدير قدرة شعوبهم، ولا بأس رجالهم، ولا تصميم أمتهم، ولا يدركون تطلعات شعوبهم، وأحلام أجيالهم، وآمال شبابهم.
ويؤمن معسكر الممانعة أن إسرائيل، الكيان المسخ اللقيط، ظالمٌ ومعتدي، فلا عهد له ولا أمان معه، ولا اتفاق يحفظه ولا معاهدة تضبطه، وهو لا يكتفي بأرض فلسطين وطناً، بل يتطلع إلى السيطرة على أراضٍ عربية أخرى، ويحلم ببناء دولة إسرائيل الكبرى، وهو لا يؤمن بالسلام، ولا يسعى له، ولا يذلل الصعاب للوصول إليه، بل غايته كسب المزيد من الوقت، وتحقيق المزيد من الكسب، انتظاراً إلى لحظةٍ مناسبة، وتوقيتٍ ملائم، ينقض فيه على الجوار، أو يعلن عن نواياه الحقيقية في فلسطين المحتلة، تجاه الأرض والإنسان والمقدسات.
بينما يؤمن معسكر الاعتدال بضرورة الاعتراف بالأمر الواقع، والإقرار بحقائق المستجدات، ومتغيرات الزمان، وضرورة الاعتراف بدولة إسرائيل، والتسليم بوجودها، إذ يستحيل شطبها، ويتعذر إنهاء وجودها، وأي جهدٍ يبذل في هذا الاتجاه إنما هو هذرٌ وهدرُ، ومضيعة للوقت، واستخفافٌ بالعقل، وبذلٌ في غير المكان والزمان، وأنه لا بد من استدراك ما فات، وتحقيق ما قد لا ندركه غداً، وقد علمتنا السنون أن ما عرض علينا قديماً ورفضناه، كان أفضل بكثيرٍ مما نتمنى تحقيقه اليوم، فلا نضيع الفرص، ولا نفوت الممكن، فما هو متاحٌ اليوم أفضل بكثيرٍ مما سنتمناه غداً.
معسكر الممانعة لا يرى في المعتدلين خصماً ولا عدواً، ولا يعمد إلى الإساءة إليهم أو الإضرار بهم، ولا يتهمهم ولا يخونهم، ولا يسجنهم ولا يعتقلهم، بل قد يتفهم عجزهم، ويسكت على فهمهم، ويغض الطرف عن سلوكهم، وإن لا يعجبه شيئاً من أفعالهم، ولكنه يرى ضرورة انسجام الجبهات الداخلية، واستقرار الأوضاع الوطنية، لتشتد الجبهة مع العدو، وتستعر المقاومة ضده.
لكن دول الاعتدال لا تعجبها المقاومة، ولا ترضيها الرجولة، ويغضبها الثبات، ويزعجها القتال، ويسوؤها النصر على العدو، فتضيق على المقاومة، وتسعى لتطويقها، وتجفيف منابعها، واعتقال عناصرها، واجتثاث قواعدها، والاعتراض على جهودها، وإبطال عملياتها، بل قد تنسق مع العدو وتتعاون معه، لإحباط أي عملٍ مقاوم، وإفشال أي مشروعٍ مناهض.
ترى متى يدرك المعسكران أن عدوهما واحد، وأنه لا يفرق بينهما، ولا يصادق أحدهما، وأنه يفكر في القضاء على المعتدلين قبل المتشددين، ويحلم في الاستيلاء على أرض وخيرات دول الاعتدال قبل كسر شوكة دول وأطراف الممانعة، ما يستدعي الوعي والادراك، والفهم والاستيعاب، أن هذا عدوٌ مبين، وشرٌ مستطير، وشيطانٌ ماردٌ لعين، ورد بيانه في كتاب الله الخالد “لتجدن أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا”، ألا يؤمنون بالله سبحانه ويصدقون قوله؟ …