المشهد العراقي.. سباق المبادرات وعقدة الانسداد وخيار التوافقات
موقع قناة الميادين-
عادل الجبوري:
مهلة الأربعين الصدرية طرحت بعد فشل التحالف الثلاثي وإخفاقه في تأمين أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان لتمرير مرشحه لرئاسة الجمهورية.
بحلول التاسع من شهر شوال، وفقاً للتقويم الهجري القمري، المصادف 11 أيار/مايو الجاري، تكون مهلة الأربعين يوماً التي حددها زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر لقوى الإطار التنسيقي من أجل تشكيل الحكومة انتهت من دون حصول أي حلحلة أو التوصل إلى حلول واقعية وعملية للأزمة السياسية العراقية، التي يبدو أنها دخلت نفقاً مظلماً في ظلّ التقاطعات الحادة بين الفرقاء، وغياب نقاط الالتقاء التي يمكن أن توفر أفقاً ومخرجاً مناسباً ومرضياً للجميع، أو بأدنى تقدير، للأطراف المؤثرة والفاعلة في مسرح الأحداث.
مهلة الأربعين الصدرية طرحت بعد فشل التحالف الثلاثي وإخفاقه في تأمين أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان لتمرير مرشحه لرئاسة الجمهورية، وهو وزير داخلية إقليم كردستان والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني ريبر أحمد البارزاني. هذا الإخفاق الذي أثبت قدرة قوى الإطار على عرقلة مشروع حكومة الأغلبية أدى تلقائياً إلى تعطيل تشكيل الحكومة؛ فبحسب المادة 76 من الدستور العراقي النافذ، “يكلّف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً تشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية”.
ولعلّه كان مؤكداً أن قوى الإطار التنسيقي لن تفلح في تشكيل الحكومة، بل في واقع الأمر، أراد الصدر إلقاء الكرة في ملعبها وإحراجها في الوقت نفسه، والابتعاد عن واجهة الأحداث من خلال التزام الصمت، وأخذ فسحة لإعادة ترتيب الحسابات، والبحث بهدوء مع الشركاء عن مخرج مأزق الثلث المعطل.
فضلاً عن ذلك، إنَّ قوى الإطار كانت مدركة منذ البداية خلفية قرار زعيم التيار الصدري وأبعاده، ومدركة أيضاً أنها إذا كانت قد تمكنت من عرقلة مساعي التحالف الثلاثي لتمرير مشروعه، فإنها من دون أدنى شك لن تكون قادرة على تمرير مشروعها المتمثل بتشكيل حكومة توافقية، ولو تحول الثلث المعطل إلى نصف معطل أو أكثر من ذلك.
ولأن قناعات كلا الطرفين، التحالف الثلاثي والإطار التنسيقي، بالعجز عن التقدم إلى الأمام وتجاوز الآخر، ومع عدم تبلور وتهيؤ الأرضيات للتوافق والتفاهم، راح الطرفان يبحثان عن بصيص ضوء في ذلك النفق المظلم. وهنا، برز اسم “المستقلين” إلى الواجهة ليكونوا زورق النجاة للفرقاء الكبار.
وقبل انتهاء مهلة الأربعين ببضعة أيام، تقدمت قوى الإطار بمبادرة من 9 نقاط، تمثل محورها الرئيسي بمنح المستقلين فرصة اختيار رئيس الوزراء من المكون الاجتماعي والسياسي الأكبر. ومما جاء في المبادرة: “إيماناً منها بضرورة سير العملية الديمقراطية، وتفادياً للانسداد السياسي، تتقدم قوى الإطار بمقترح للنواب المستقلين بأن يقدموا مرشحاً تتوفر فيه الكفاءة والنزاهة والمقبولية والحيادية وجميع المؤهلات المطلوبة لإدارة البلاد في هذه المرحلة الحساسة من عمر العراق، على أن يدعم من قبل جميع الكتل الممثلة للمكون الأكبر والمشكلة للكتلة الأكثر عدداً، وفقاً لتفسير المحكمة الاتحادية للمادة 76 من الدستور… وأن يتم من خلال هذه المبادرة حسم موضوع الرئاسات الثلاث عبر تفاهم أبناء كل مكون فيما بينهم، والجميع يتعامل مع مفهوم الأغلبية الراغبة في المشاركة، وكذلك المعارضة الراغبة في المراقبة، على أن تمر جميع الرئاسات بمسار واحد، هو الأغلبية الراغبة التي يطمئن إليها الجميع، مع الاتفاق على أن رفض أي مرشح من المكونات الأخرى لا يعني تقاطعاً مع المكون، بل فسح المجال أمام هذا المكون لتقديم خيارات أخرى، والرؤساء الثلاثة يكونون ممثلين للجميع، ويحظون بدعم واحترام من الجميع”.
ولم يمرّ وقت طويل حتى تقدم الصدر بمبادرة للمستقلين، تمثلت بإعطائهم مهلة 15 يوماً لتشكيل حكومة مستقلة بعد التحاقهم بالتحالف الثلاثي، بعيداً عن الإطار التنسيقي، الذي اعتبر الصدر أنه أخذ فرصته وفشل، مؤكداً “أن التحالف الأكبر سيصوت على حكومة المستقلين، بمن فيهم الكتلة الصدرية، وبالتوافق مع سنة التحالف وكرده، ولن يكون للتيار الصدري مشاركة في وزرائها، على أن يكون ذلك في مدة أقصاها 15 يوماً”.
سباق المبادرات المحموم هذا أربك المشهد أكثر مما وجه بوصلة الحراك نحو مسارات محددة وواضحة ومثمرة، لأن هذه المبادرات تستبطن محاولات لجذب المستقلين وجعلهم تحت مظلة الوصاية والتأثير، أو بعبارة أخرى توظيفهم واستغلالهم من قبل كلّ طرف لتحقيق ثقل سياسي أكبر على حساب غريمه وخصمه السياسي.
ويبدو أن المستقلين تنبهوا إلى ذلك الأمر، ولم يتأخروا في التعبير عن موقفهم الرافض لمبادرات الفرقاء الكبار، التي تجعلهم تابعين أكثر من كونهم مشاركين فاعلين، وهذا ما عبر عنه بصراحة ووضوح عدد من النواب المستقلين، فضلاً عن الإفصاح عن نيتهم طرح مبادرة خاصة بهم “تتضمن خارطة طريق وبنوداً وشروطاً وضمانات لإنهاء حالة الانسداد السياسي في حال توفرت الجدية وحسن النيات”.
وما قيل بهذا الشأن: “تم الاتفاق على أن المستقلين هم الذين سيشكلون الحكومة بطريقتهم، وليس بطريقة المبادرتين اللتين طرحهما الإطار والتيار، مع احترام هذه المبادرات، ولكنهم لا يقبلون بالحصول على منحة من هذه الأحزاب”.
وقد طرح تحالف “من أجل الشعب” المتشكل من 28 نائباً من كتلة الجيل الجديد الكردية وكتلة “امتداد” التشرينية أواخر الشهر الماضي مبادرة من 4 نقاط، خلاصتها اختيار شخصية مستقلة لم تشارك في حكومات المحاصصة السابقة بتشكيل الحكومة، وأن لا تكون تلك الشخصية مزدوجة الجنسية، وأن تأتي ببرنامج حكومي واقعي يلامس هموم الناس وتطلعاتهم وطموحاتهم.
ولعل هناك جملة حقائق في ما يتعلق بالمستقلين لا بد من وضعها في الحسبان وأخذها بعين الاعتبار، ومنها:
– إن عددهم يربو على 40 نائباً أو أكثر من ذلك بقليل، أي أن نسبتهم لا تتعدى 12% من مجموع أعضاء البرلمان العراقي البالغ 329 نائباً، ما يعني استحالة قدرتهم على اتخاذ أي خطوة من دون التوافق والتفاهم مع أحد الأطراف الكبيرة.
– واقع الحال يؤكد أن المستقلين لا يشكلون كتلة برلمانية واحدة منسجمة تمتلك رؤى وتصورات وبرنامجاً موحداً، بل ربما كان البعض منهم ينتمون إلى قوى وتيارات سياسية معينة، بيد أنهم خاضوا السباق الانتخابي تحت عنوان مستقلين بتنسيق مع القوى والتيارات المحسوبين عليها، لكسب أكبر عدد من الناخبين البعيدين عن التوجهات الحزبية الخاصة، والذين يصنفون ضمن المساحات الرمادية، والبعض الآخر تم التواصل معهم بعد الانتخابات من قبل القوى الكبيرة من أجل استمالتهم، من خلال إغراءات ووعود بمناصب وامتيازات ومواقع في الترتيبات القادمة.
– أكثر من ذلك، إنَّ كتلة المستقلين، إن صح التعبير، تتألف من كتل وكيانات صغيرة إلى جانب أفراد، وهؤلاء ما يفرقهم قد يكون أكبر وأكثر مما يجمعهم، ولا سيما أن المعادلات السياسية في العراق تقوم على عناوين ومسميات واصطفافات قومية وطائفية ومذهبية ودينية، ناهيك بالارتباطات والولاءات الخارجية التي لا يمكن بأي حال من الأحوال التغافل عنها وتجاهلها.
– إلى جانب ذلك، إنَّ القسم الأكبر من المستقلين يفتقرون إلى التجربة والخبرة السياسية الكافية، فضلاً عن مساحة العلاقات التي من شأنها أن تتيح لهم إمكانية التواصل والتفاوض والإقناع. وأغلب الظن أن رفضهم مبادرات الإطار والتيار نابع من توجس وتردد وتخوف من ابتلاعهم وتذويبهم أكثر من ارتباطهم بوجود مشروع ناضج وواضح ومتكامل لديهم.
وإذا كان التوجه نحو المستقلين يعد بمنزلة هروب نحو الأمام، فإنه، كما يبدو، خيار عقيم، ولا ينتج سوى المزيد من الاختناق أو الانسداد السياسي، لأنه يفضي إلى اصطفافات وتشظيات جديدة أو في أفضل الأحوال يفرز توافقات وتفاهمات ضمن سقوف معينة، ما يعني العودة إلى المربع الأول الذي انطلقت منه قوى الإطار التنسيقي بادئ الأمر ورفضه التيار الصدري تحديداً، مع رغبة واقعية من شركائه الكرد والسنة للأخذ به.
وسواء كانت هناك رغبة وقناعة بخيار التوافق أم لم تكن، فإن مجمل القراءات والمعطيات تقول أنْ لا خيار سواه يمكن أن ينهي حالة الانسداد القائمة. وكما قلنا بعد ظهور النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية في العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي: “إن المسار العام للعملية السياسية في العراق لن يتبدل كثيراً، هذا في حال طرأ عليه تغيير فعلي يعتد به، لأن القوى الكبيرة لا بد من أن تحقق تفاهمات الحد الأدنى لتنتقل إلى الخطوات اللاحقة، والقوى الصغيرة لا بد من أن تتحالف أو تصطف أو تنضوي تحت مظلة هذا الكيان السياسي الكبير أو ذاك، حتى يكون صوتها مسموعاً ومؤثراً، والتفكير في المكاسب والمواقع والامتيازات لن يغادر العقليات السياسية القديمة والجديدة على السواء”.
وثمة حقيقة مهمة لا بد من الالتفات إليها، وهي أنه كلما طال أمد الأزمة، اتسع نطاق الانقسام والتشظي بين قوى المكون الواحد، وهذا ما يبدو واضحاً وجلياً لمن يراقب تفاعلات التجاذبات الحادة بين القوى الكردية وتداعياتها، ومعارك “التسقيط” المحتدمة بين القوى السنية، ناهيك بارتباك مواقف القوى الشيعية واضطرابها.
والأمر الآخر الذي لا يقل أهمية عن غيره، يتمثل بأن المصالحات والتفاهمات الإقليمية بين بعض أطراف الصراع أو معظمهم، والاتجاه إلى إغلاق ملفات الخلاف أو تجميدها، من المفترض أن تكون له انعكاسات على المشهد العراقي، بحكم تداخل المصالح والحسابات والأجندات وتشابكها، وهذا ما لا يمكن للفرقاء العراقيين القفز عليه وإغفاله، وهم يسعون للخروج من عنق الزجاجة ومغادرة نفق الخلافات المظلم إلى فضاء الحلول المنتج.