المزايدة.. نمط الفاشلين ومهنة الحاقدين
موقع العهد الإخباري-
ليلى عماشا:
كثرَ المزايدون، وإن كانت منصات التواصل قد أتاحت لهم المنابر التي يطلقون مزايداتهم عبرها، فهي لم تكثّر منهم. فهؤلاء موجودون منذ أن وجد الصراع بين الحق والباطل. الفارق أنّه في السابق كان لا يعلم بهم إلا ذووهم ودوائرهم المباشرة، والآن أصبحوا على مرأى من كلّ عين.
إذا تناولنا جزئية المزايدة بالمقاومة على المقاومة، وما صدر ويصدر عن المزايدين بالمواضيع المتعلّقة بالتطبيع والنصر والعداء مع “اسرائيل”، مع تحديد الحيّز الزمني بالمرحلة الممتدة من عام ٢٠٠٠ إلى اليوم، يمكن ترتيب المزايدات على الشكل التالي:
في العام ٢٠٠٠، تحديدًا في الخامس والعشرين من شهر أيار/ مايو، اندحر جيش الاحتلال وعملاؤه من جنوب لبنان وبقاعه الغربي، وبحسب ما سجّل التاريخ الموثّق، فرّ العدوّ دون أن يترك لنفسه فرصة تمويه فراره أو تجميل هزيمته. لم يحاول مثلًا أن يدّعي أنّ انسحابه جاء تنفيذًا للقرار ٤٢٥، أو أنّه انسحب بناء على اتفاق غير معلن: جهارًا، انسحب العدو تحت وقع تراكم عمليات المقاومة النوعية، وترك خلفه أكوامًا من العملاء يستجدونه فتح بوابة العبور إلى فلسطين المحتلة كي يفرّوا خلفه. المشهد لم يزل حاضرًا في ذاكرة من عاش تلك المرحلة، وقد وثّقته كاميرات وتسجيلات الإعلام المحلي والدولي.
في العام ٢٠٠٠ أيضًا، وتحديدًا في الساعات الأولى التي تلت التحرير، هبّ من يشكّك في حقيقة أن “”اسرائيل” هُزمت”. عقله لم يتمكّن من استيعاب حقيقة أن يُهزم العدو وأن يخضع لضرورة الانسحاب، فانبرى يزايد حينًا بالقول إنّ المقاومة الإسلامية عقدت اتفاقًا مع الصهاينة يقضي بانسحابهم، معتبرًا أنّ “اسرائيل” لم تكن لتنسحب إلا باتفاق، وأنّ “وطنيّته” منعته من انجاز التحرير لأن التحرير مشروط حكمًا بالإتفاق مع “الإسرائيلي”، وطورًا يجمّل قبح الصهاينة بالقول إنّهم انسحبوا تنفيذًا للقرارات الدولية ويتخّذ من وهمه هذا دليلًا ومقدّمة ليحدّثنا فيها عن أهمية الديبلوماسية في حلّ الصراعات وأن العمل المقاوم العسكري لا علاقة له بإنجاز التحرير.
في ذلك الحين كانت هذه المزايدة ذات الوجهين تسبب استهجانًا لدى سامعيها، أولًا لندرة أن يجاهر أحدٌ بهذا الكمّ من التغابي والانهزامية على سبيل الحياء. ففي ذلك الوقت، كان تبنّي خطاب العمالة عيبًا ومحلّ استنكار كبير.
في العام ٢٠٠٦، وبعد أن اتخذت المقاومة قرار أسر جنود صهاينة بهدف إجبار “اسرائيل” على الإفراج عن عدد كبير من الأسرى في معتقلاتها ومنهم عميد الأسرى الشهيد سمير القنطار، وبعد خوض معركة الثلاثة والثلاثين يومًا وتكليلها بالنصر الإلهي المبين، خرج من يهزّ برأسه مستغربًا متعجّبًّا متهِمًا مزايدًا: إن التبادل يحتّم أن يكون هناك تفاوض يسبقه، والتفاوض ولو غير المباشر إنّما هو نوع من أنواع التطبيع. ثم انبرى يحاضر بالمقاومة وبأهمية التنبّه من أشكال التطبيع. هذا التبسيط والتسطيح الذي في ظاهره تغابٍ واستغباء وفي باطنه محاولة لعرقلة وتوهين كلّ إنجاز تقوم به المقاومة صار نهجًا أو لنقل نمطًا في التحليل اعتمده العديد من الحاقدين على المقاومة ونصرها وطهرانيتها، الذين شعروا بأن هزيمة “اسرائيل” هي في الوقت نفسه هزيمتهم السريّة التي لا يمكنهم البوح بها، فقاموا بتمويهها بشعارات المزايدة والتّهم الباطلة.
تلا ذلك محطات كثيرة ومتعدّدة شهدنا فيها على المزايدات الرخيصة التي تعكس بأحسن الأحوال جهل أصحابها بالمعيار الوطني وفقرهم بالمعيار الأخلاقي.
حين أُبرمت صفقة تهريب العميل المقبور عامر الفاخوري، في مبنى السفارة الأميركية وبترتيبات “قضائية” ذات طابع رسميّ، تسابق المزايدون ليتهموا حزب الله، أي ليتهموا المقاومة، بالضلوع في عملية تهريب عميل! منهم من استدلّ على صحّة ادعائه بكون المقاومة لم تقصف الطائرة التي تمّ تهريب العميل فيها! منهم من بلغت به الوقاحة حدّ اتّهام المقاومة بكونها طرفًا مستفيدًا من الصفقة، فيما كان يتفرّج عبر شاشة هاتفه دون أن يساهم ولو بكلمة حقّ في وجه تهريب عميل قاتل! منح هؤلاء لأنفسهم يومها حقّ مقاضاة المقاومة على فعل بذلت في محاربته دمًا وتعبًا وأعمار أحبة غابوا.
لم ينته الأمر هنا، فحين دخل موضوع تعيين الحدود البحرية بتفاوض غير مباشر يقوم به لبنان الرسمي بدافع حفظ حقوقه بالتنقيب عن الغاز والنفط واستخراجهما، وحين قدّمت المقاومة امكانياتها المشهودة دوليًا والتي تشكّل ورقة التفاوض الوازنة الوحيدة التي يمكن للمفاوض اللبناني الارتكاز عليها لتحقيق أعلى قدر من الحقوق، خرج من يتّهم المقاومة بالتطبيع بمجرّد قبولها بتفاوض غير مباشر هي ليست طرفًا فيه أصلًا! خرج من يتبجّح بوطنيته التي تريد أن تمنع التعيين وتعتبره اعترافًا “باسرائيل”.
يفهم هؤلاء جيّدًا أنّ المقاومة لا يمكن أن تلتقي بـ”اسرائيل” إلا في ساحة مواجهة وميدان قتال، وأنّ حزب الله ليس فقط آخر من قد يفكّر في احتمال “سلام” مع الصهاينة، بل هو الجهة التي يقينًا لا يشكّل هذا “السلام” احتمالًا بالنسبة إليها مهما اشتدت الضغوط ومهما عاكستها الظروف. يعرفون أنّهم يكذبون في كلّ مرّة يزايدون فيها، ولا يخجلهم كذبهم بطبيعة الأحوال كونه “عدّة شغلهم” وقوّة عملهم التي تستثمرها جهات متعدّدة الجنسيات بتعداد السفارات المعنية بمحاربة المقاومة.
وبعد، رأوا في مشهد العزّ الذي سطّره الإعلام الحربي يوم وقف الحاج علي شعيب متحديّا جنود جيش العدو هازئًا بهم مجالًا يزايدون به. اعتبروا انسحابات اللاعبين اللبنانيين من المباريات الدولية التي تفرض عليهم مواجهة لاعبين صهاينة حركة سخيفة ولا تعني شيئًا ولا يمكن ترجمتها كرفض للاعتراف بـ”اسرائيل” معلّلين وجهة نظرهم بأنّ المواجهة العسكرية مع جنود الإحتلال هي اعتراف بوجود كيانهم وأنّها شكل من أشكال التطبيع وأنّ الوطنية تفرض تجاهلهم وعدم الإقرار بوجودهم!
هي لمحة عن المزايدات التي اعتدنا مطالعتها وبدت أكثر حضورًا حين شاعت منابر الإعلام الافتراضي ومنذ لم يعد المشبوهون يستحون من التعبير علانية عن عمالتهم تحت عنوان الرأي الآخر، ومنذ أن أصبح من “الطبيعي” أن يتمتّع المدانون بالجاسوسية وبالتواصل مع العدوّ بحقّ التعبير عن رأيهم بدول محور المقاومة وأنظمتها الداخلية.
الجانب السيّئ من حقيقة وجود المزايدين في كلّ محطّة هو تمكّنهم من ضخّ السلبية ومن تحويل الهراء إلى نصوص مكتوبة ومسموعة، يتكفّل بصياغتها فاشل اعتمدها كنمط أو حاقد اتخذها مهنة. أمّا الجانب البهيّ فيكمن في حقيقة موازية تقول إن أصابع الكذب والقبح لا تخفي وجه الشّمس، ولا تمنع نورها الأصفر من فرض معادلات الحق المنتصر، شاء مَن شاء، وزايد مَن زايدَ، وسقط من سقط.