القوميّة العربية بين ضياع الهويّة ونشأة القوميات الهجينة
موقع إنباء الإخباري ـ
عُلا فحص:
شَهِدّ التاريخ العربي المعاصر الكثير من الأحداث في مختلف الدول العربية التي استطاعت بفعل إصرارها على نيل استقلالها من إحتلالات أجنبية متعددة منها الفرنسي والبريطاني . يعتبر العديد من المحللين أن هذة الإستقلالات المتعددة لم تكُن كاملة و لم تراعِ سيادة هذة الدول بالكامل، فمعظم الدساتير التي وُضِعت و تمَّ العمل بها في حينه، لم تكن إلا مواد قانونية استُنسِخَت من دساتير تلك الدول التي احتلتها لتكَوِّن بمضمونها الجامع دستور و نظام داخلي للدولة المُستَقِلّة تحكم قوانينه مؤسساتها الدستورية.
وعلى الرغم من تطور هذة الدساتير إلا أنها لم تعكس تطلعات المواطنين بحيث اتخذت غالباً طابعاً أيدولوجياً يعكس الحقبة التاريخية التي وُضِعت فيها.
وفي الأغلب الأعم، هذة الدساتير تمَّ صَوغها من أجل تغليب فئة سياسية على فئة سياسية أخرى بما يخدم مصالح السلطة الحاكمة، فتحول الدستور الذي هو بالأساس وثيقة إجماع وطني يُكرّس الحداثة السياسية، تحوّل إلى ساحة للنزاع السياسي.(1)
إن هذة التشوهات التي أصابت الدساتير العربية أدّت الممارسة السياسية من خلالها إلى خلق حركات إحتجاجية عُرِفَت ب “الربيع العربي” الذي لم يصل حتى حينه إلى تحقيق التغيير المُراد منه، والذي و بحسب العديد من الآراء اتخذَ منحاً مغايراً على ما قام عليه.
بمعنى أن “الثورات” العربية الحديثة لم تكن ثورات تقوم على أساس متين بل أُريدَ لها أن تكون أداة تؤدي إلى تبيان مدى تفسّخ المجتمعات العربية في عقيدتها القومية الخاصة والعامة.
وللتفسير أكثر، فإن ًالثورات” العربية أظهرت انقسام حاد بين الفئات الإجتماعية داخل كل بلد عربي، حيث أن هذة الفئات الإجتماعية و بدل أن تجتمع على مشروع واحد ينهض بالدولة نحو الحداثة يتساوى فيها جميع المواطنين في حقوقهم وواجباتهم، انكبَّت هذة الفئات على تخوين ومحاربة بعضها في محاولة لتَجيير ” العمل الثوري” لمصالحها الضيقة و الذي يخدم أجندتها الخاصة و التي، بطبيعة الحال، لم تكن أجندة محض وطنية بل ارتبطت بأجندات وصل الحد بالبعض بوصفها أميركية و صهيونية تخدم فكرة مشروع “الفوضى الخلاقة” الذي أشارت إليه مرات عدّة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس.
غير أنَّ أميركا، وبناءً على الأحداث الاستراتيجية المتسارعة في المنطقة وعلى المستوى الإقليمي، كانت تعتقد أنها أمام شرق أوسط راكد تتمتع فيه بتحالفات يمكن الإعتماد عليها مثل مصر وإسرائيل والسعودية، إلا أنها سرعان ما اتجهت اتجاهاً معاكساً وواضحاً، إن لم يكن كلياً، نحو إيران وخاصة فيما يتعلق بملف الاتفاق النووي الإيراني والذي أثارَ حفيظة المملكة وإسرائيل على السواء، خاصةً وأن المملكة استطاع الحكم فيها من الصمود أمام عواصف “الربيع العربي” بعكس غيرها من الأقطار العربية التي سقط الحكم فيها مثل العراق وليبيا ومصر(2) حيث لجأت المملكة كغيرها من الدول الخليجية إلى اعتماد إجراءات متشددة منها الأمني ومنها الصَّرف من الوظيفة والترحيل، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك ودعت العديد من الأقطار للدخول في حلف معها من أجل خوض حربها على اليمن.
لعل أهم نتاج انبثق عن ” الثورات” العربية هو الانشقاقات المذهبية التي كانت مستترة تحت صيغة العيش المشترك في العديد من الدول العربية.، حيث أصبحت هذة الانشقاقات عبارة عن قوميَّات مُصغَّرة معزولة و متنافرة فيما بينها، سارع في تعزيزها الحرب الدائرة في سوريا مما أدّى إلى ظهور مستويات غير مسبوقة من العنف في العراق.
و الأهم أُريدَ للربيع العربي أن يُوجِد شكلاً جديداً من أشكال الإرهاب الديني المعروف ب “داعش” الذي أرهبَت أعماله العالم بأجمعه، و هو الإبن الشرعي لجهود جهات مختلفة عربية وأجنبية دعمت وجوده سراً وحاربته في العلن(3)، والذي لم يَسلَم من ممارسته الإرهابية بالشكل الفعلي إلا دول الخليج التي تعيش إزدهاراً أمنياً على الرغم من تعرّض بعضها وخاصةً المملكة العربية السعودية لعدد من التفجيرات الارهابية طالت عدداً من مساجدها وراح ضحيتها مواطنون أبرياء، إلا أن هذة التفجيرات يراها المحللون على أنها تمويه لِشَق الصّف الإسلامي وتكريس انقسامه المذهبي خدمةً لمشروع الفكر الوهَّابي.
بناءً على الواقع الجديد الذي تعيشه المنطقة العربية، والذي أقل ما يمكن أن يُقال عنه أنه مخيف وصادِم، تعاني المنطقة برُمتِها من أزمة في هويتها القومية، فهي تَشهَد حالياً صراعاً معرفياً حاداً في مفهوم القومية العربية. فبعد أن كان من أولويات القومية العربية دعم القضية الفلسطينية ومساندتها ودعم جميع أشكال المقاومة في جميع الأقطار العربية ضد الكيان الإسرائيلي والمحافظة على الهويّة واللغة والارتباط العروبي والعرقي(4)، إلا أنه ونتيجة للارتباط الخارجي من جميع الأطراف، انبثقَ مفهوم جديد مضاد لمفهوم العروبة المذكور سابقاً، حيث أنَّ هذا المفهوم الجديد يُدينُ العمل المقاوم ويعتبر ممارساته إرهابية بالشكل والمضمون، والتاريخ لم يذكر أن أي طرف عربي رسمي، غير الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قدَّم أي شكل من أشكال الدعم الحقيقي والفعلي للمقاومة في فلسطين، بل على العكس فإن العديد من الأقطار العربية كرَّسَت العديد من الاتفاقات مع الكيان العبري وإن كان أغلبها يتمُّ سرّاً بعيداً عن عيون المواطن العربي.
إن المنطقة العربية تشهد حالياً صراعاً بين خطَّين متناقضين يناديان بالعروبة، الخط الأول ينادي بالعروبة الأصلية التي أرساها سياسياً (5) الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والتي تُدين جميع أشكال الإنقسام وتدعو لتعزيز الوحدة العربية بين أقطار الوطن العربي وتدعم القضية الفلسطينية وتحترم الشؤون الداخلية لكل وطن عربي دون تدخّل يُنقِص من سيادته كدولة.
أما الخط الثاني فهو ينادي بعروبة مُستَحدَثة تقوم على نَقض مبادئ العروبة الأصلية وتوَصِّف العمل المقاوم على أنه عملاً إرهابياً لأنه يهدِّد مصالحها، وتقوم على أساس يكرِّس التفكير الفئوي والاستئثاري الذي وصلَ لِحَد المذهب.
يبقى أن نُشير أنه بات من الضروري التنادي من أجل ترسيخ مفهوم القومية العربية و المعنى العروبي بتعريفه الأصلي من أجل المحافظة على هويّة المنطقة العربية وتجنيبها خطر الذوبان الكُلِّي في بوتقة الأجندات التي لا تخدم إلا مصلحة الكيان العبري وتعزِّز من موقعِه في المنطقة.
*باحثة وأكديمية ـ ماجيستير إعلام وتواصل
المصادر:
1- المسارات الدستورية العربية: جهود تفعيل الدساتير و تطويرها ، كتاب صادر عن مركز المسبار للدراسات و البحوث، كتبه العديد من الباحثين من كل من: تونس، الجزائر، المغرب، مصر و العراق. كانون الأول / ديسمبر 2015.
2- الربيع العربي: عشر نتائج غير متوقعة www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/12/13214_arab_spring_outcomes
3- ما هو تنظيم داعش؟ www.alhayat.com/m/story/2909987
4- العروبة و خصائصها في الفكر القومي، دراسة أعدَّها الباحثون: ناهد عمَّار، منجية الزواوي، عبد السلام الحمدي.
https://sites.google.com/site/wwwelhamdicom/representation-2/representayion-3
5- القومية العربية: تاريخها و قوامها ومراميها، محاضرات ألقاها مصطفى الشهابي في العام 1958