القوة الذكية في سياسة إيران الخارجية
موقع الخنادق-
زينب عقيل:
منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي، انشغل الفكر الاستراتيجي بالبحث عن وسائل وأدوات تجنّب الخسارات عالية التكلفة، وتكون أكثر جاذبية وقبولًا من القوة العسكرية بشقيها التقليدي والاستراتيجي، سواء على مستوى توظيفها أو على مستوى النتائج المتحققة منها.
الواقع أن الولايات المتحدة كانت أول من برع في استخدام القوة الناعمة حتى قبل أن يبدأ مصطلح “القوة الناعمة” بالتداول. عام 2003 كان جوزيف ناي، وهو المساعد السابق لوزير الحرب الأمريكي، كان أول من وضع هذا الاصطلاح إلى أن صدر كتابه “القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية” الذي صدر عام 2007. يعرّف ناي القوة الناعمة على أنها “القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلًا من الإرغام أو دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسة، فعندما تبدو سياستنا مشروعة في عيون الآخرين، تتسع قوتنا الناعمة”. وعندها تتمكن من جعل الآخرين يعجبون بمُثُلك ويريدون ما تريد.
في الحرب الأمريكية على العراق، كانت إحدى قواعد رامسفيلد هي أنّ “الضعف يحرّض عليك الآخرين”، ويعترف ناي أن “الناس يحبون الحصان القوي”، ومهما كان من واقع فإن الدمج بين القوة العسكرية والقوة الناعمة سيبدو أكثر نجاعة، وتلك هي “القوة الذكية”. و “من المؤكد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت دائمًا الأفضل في “القوة الذكية” أكثر من القوة الصلبة أو الناعمة وحدها”. يقول الباحث أليسون أسيتر في مقاله تحت عنوان: “القوة الناعمة الإيرانية في عهد ما بعد سليماني”.
يمكن القول إنّ لدى الولايات المتحدة الأمريكية مشكلتان مع إيران، الأولى هي تغلغل طهران في حركات شعبية في المنطقة الإقليمية، والثانية هي برنامج إيران النووي. ومشكلة ثالثة هي أنه على الرغم من “الضغوطات القصوى” إلا أن الأخيرة لا تنفكّ تطوّر ترسانتها العسكرية وقادرة على مدّ الفصائل والأحزاب المؤيدة لها بالقوة. كما أنّ “محور المقاومة” اليوم ما انفكّت قوته تتعاظم على الصعيدين السياسي والعسكري، والأحزاب والحركات التي تدعمها إيران باتت أكثر تأثيرًا في محيطها المحلي والإقليمي.
تبحث مراكز الدراسات الأمريكية اليوم في معالجة التقدّم الإقليمي لإيران، وتعترف أن الطريقة التي حاولت بها الولايات المتحدة وشركاؤها العرب القيام بها للحد من التقدّم قد باءت بالفشل. فلا شيء يعرقل أنشطة إيران الإقليمية حتى الآن. فكيف تعمل قوة إيران الذكية؟
حركات التحرر الموالية لإيران قوة ذكية
أولًا وقبل أي شيء، تحتاج الولايات المتحدة إلى الاعتراف بقوة إيران الناعمة. فإيران التي سعت إلى وضع عقيدة “دعم حركات التحرر” في دستورها، لا تلزم جيرانها ولا حلفاءها بملزمة قسرية. في العراق استُدعيت إيران كملاذ وحليف أساسي للشيعة الذين قاوموا الاحتلال الأمريكي وداعش. وفي اليمن لم يجد اليمنيون حليفًا لهم وداعمًا أساسيًا في مواجهة الهيمنة السعودية سوى إيران. أما بالنسبة لحركات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فإيران مستمرة منذ أكثر من 40 عامًا في دعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وفي الحرب التي دامت عشر سنوات على سوريا، ساعدت إيران النظام السوري في الاحتفاظ بالسيطرة على العديد من المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، ومن ثمّ تحرير أغلب أراضيها.
صحيح أن البعد “الشيعي” لدى إيران يحتلَ مساحة واسعة من قوة إيران الناعمة، فهي الدولة الوحيدة الشيعية التي يمكن أن يدخل تحت حمايتها الشيعة في الإقليم، إلا أنّ الواقع أن إيران استطاعت أن تعبر الطوائف في أجزاء كثيرة من المنطقة، فالمقاومة الفلسطينية في بعدها الطائفي هي حركة سنية، والنظام السوري هو نظام علماني، والكثير من الأقليات السكانية في سوريا التي كانت مهددة من الحركات الأصولية المتشددة اعتبرت أن تدخل إيران لإنقاذ النظام هو المنقذ لوجودها. كل هؤلاء كانت الولايات المتحدة تعمل على سحقهم بفرض العقوبات عليهم وتسليح المعارضين لهم في كافة الدول، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى الاقتراب أكثر من إيران.
الواقع أن الاستراتيجية العقابية التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفاؤها في غرب آسيا قد فشلت بشكل واضح. فالولايات المتحدة التي لم تستطع تغيير النظام السوري، أو كسر حزب الله في لبنان، وقوات التحالف السعودية والإماراتية التي لم تستطع إخضاع حلفاء إيران في اليمن، لا تفصل الولايات المتحدة هذه الإخفاقات عن القوة الناعمة لإيران. ويمكن القول إن “محور المقاومة” قد تشكّل من القوة الناعمة الإيرانية في سياستها الخارجية، القائمة على دعم حركات المقاومة ضد إسرائيل، ودعم المستضعفين وحركات التحرر، وكل من يطلب المساعدة في وجه الهيمنة الأمريكية والمشروع الأمريكي في المنطقة.
الملف النووي الإيراني
على الرغم من العقوبات المفروضة على إيران منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، إلا أن إيران استطاعت تطوير برنامجها النووي واستخدامه كقوة “ذكية”. فهو قوة ناعمة من جهة إذ تعمد السياسة الخارجية الإيرانية إلى التلويح به لرفع العقوبات الاقتصادية عنها. ومن جهة أخرى قوة صلبة حتى لو بقي مشروعًا ولم يتحول إلى سلاح نووي.
لدى الانتهاء من توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى في العاصمة النمساوية فيينا، رأى بعض المحللين من أعداء إيران أن “الاتفاق النووي الإيراني سيؤدي إلى تغير الموازين في المنطقة، وستتغير تحالفات عرفت بالتاريخية”. الواقع أن هذه النظرة كانت إسرائيلية أيضًا. كان ذلك قبل أن يطيح ترامب بالاتفاق ويقدّم لإسرائيل تحالفات جديدة رسمية على شكل تطبيع بعض الدول العربية معها. وفرض المزيد من العقوبات على إيران.
خروج ترامب من الاتفاق، استدعى أن تستكمل إيران مراحل برنامجها النووي وتزيد من تطويره، وهو الأمر الذي أعاد الولايات المتحدة برئيسها الجديد جو بايدن إلى محاولة إعادة الاتفاق. لقد كان قائد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي حاسمًا عندما قال ” شرط طهران للعودة عن خفض التزاماتها في الاتفاق النووي، هو إلغاء كافة العقوبات”، وأضاف “هذا موقف لن يتغيّر”. تعطلت جهود العودة إلى الاتفاق واستكملت إيران برنامجها النووي من جديد، حتى وصلت إلى 60% وهددت بأنها قادرة للوصول إلى أعلى.
الدبلوماسية الثقافية
تلعب الدبلوماسية العامة دورًا مهمًا في العمل كوسيلة يمكن لأي بلد من خلالها تعزيز قوته الناعمة، ويمكن النظر إلى الدبلوماسية العامة على أنها أداة لتعبئة موارد القوة الناعمة لبلد ما كما يقول ناي. يمكن تعبئتها من خلال قنوات عديدة، سواء كانت عبر وسائل الإعلام الإذاعية أو التبادل الثقافي والمعلوماتي، أو في المناقشات رفيعة المستوى بين رؤساء الدول والحكومات والخطب السياسية.
تتضمن الدبلوماسية الثقافية تطبيق السياسة الثقافية للدولة في الخارج من خلال تبادل الأفكار والمعلومات والثقافة والفنون بقصد جذب الجماهير الأجنبية من الجمهور للتعرف عن كثب على ثقافة الدولة ودحض الدعاية المعايدة. استطاعت إيران من خلال ما تسميهم المستشاريات الثقافية، أن تقدم ما يمكنها أن تكون جزءًا من حزمة ثقافية أكثر جاذبية على نطاق واسع، تنطلق أهميتها من وزن إيران الحضاري في العالم تاريخيًا. لقد ساعد ذلك في تعزيز حضور إيران ومكانتها في العالم، مما يشير إلى صعودها، فإيران قد تمكنت من استخدام قربها الثقافي باعتباره جسرًا يتمّ من خلاله توسيع العلاقات وزيادة المبادرات الثقافية، تحديدًا في أسيا الوسطى وغرب أسيا.
إلى ذلك، ثمة جاذبية شعبية وأممية للثورة الإيرانية إذا أردنا التعبير عنها بالقيم الثقافية للشعوب بشكل عام. وقد قدّم قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني نموذجًا للثائر الأممي الذي يُعتبر قوة صلبة وناعمة في الوقت عينه، أي قوة إيرانية ذكية.
فالملاحظ أنه بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بدأت التيارات الإسلامية في ليبيا والجزائر وتونس منذ العام 1979 إلى العام 1982 بالإعلان عن نفسها، وقد تحدّثت عن الثورة الإيرانية كنموذج ناجح للثورات الإسلامية، خاصة أن شعارات الثورة كانت شعارات موحّدة للأمة الإسلامية، ولم يكن ثمة شعار يوحي بالطائفية، بل كانت تنطلق من مواجهة الاستكبار العالمي وتنتهي إلى وحدة الأمة الإسلامية. وقد تحدث تيري كوفيل في كتابه “إيران الثورة الخفية” أنه ثمة شعار في الدستور الإيراني ينصّ على وجوب تحالف إيران مع الشعوب المسلمة وكل مستضعفي العالم الآخرين لتشكيل جبهة عالمية ضدّ المستكبرين، وكان هذا الخطاب يرمي خصوصًا إلى غضّ النظر عن كل الانقسامات الداخلية في العالم الإسلامي لاسيما الخصومة التقليدية بين السنة والشيعة لإعادة تشكيل أمة المسلمين. مجتمع إسلامي بلا طبقة اجتماعية منقول إلى صعيد العلاقات الدولية، والنضالات التحررية اعتنقت تمامًا الخطاب الإسلامي، ويعلّق كوفيل “بلا ريب كان ذلك من المواهب الكبرى للخميني الذي توصّل إلى ترجمة هذه الرؤية العالمثالثية والمتمركسة (من الماركسية) بكلمات بسيطة ودينية”.