القمة الصينية الروسية.. ولادة عالَمٍ جديدٍ
موقع قناة الميادين-
عمرو علان:
القمّة الصينية الروسية الأخيرة جاءت استثنائيةً في توقيتها ومضامينها وبيانها الختامي، وهي تشير بما نتج عنها إلى تبلور معسكرٍ في مقابل معسكرٍ غربيٍ استعماريٍ تقليديٍ.
عقب قمة الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين الثنائية، التي عُقِدت في 4 شباط/فبراير 2022، على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي تستضيفها الصين هذا الشهر، صدر بيانٌ ختاميٌ مشتركٌ، كما جرت العادة في القمم، لكنْ تميَّز هذا البيان الختامي في كونه جاء مفصلاً وشاملاً، إذ إنه أسَّس لمرحلة تعاونٍ صينيٍ روسيٍ مستقبليةٍ تمتدّ لسنواتٍ أو ربما لعقودٍ، فقد تناول في 5000 كلمةٍ عدة قضايا، كان من بينها:
– صفقات استراتيجية في عدة حقول رئيسية، كالطاقة وتكنولوجيا الفضاء.
– تنسيق مواقف البلدين تجاه قضايا الأمن الإقليمي الراهنة والمستقبلية في أوروبا ومنطقة الإندو باسيفيك.
– أفكار وإشارات حول مرتكزات النظام العالمي ومستقبله، بحسب الرؤية الصينية الروسية.
صفقات استراتيجية
كشف الرئيس بوتين عن عدة مشاريع روسيةٍ صينيةٍ جديدةٍ في مجال الطاقة، من بينها صفقة تزود بموجبها روسيا الصين بعشرة بليون مترٍ مكعبٍ من الغاز سنوياً، وذلك عبر خطّ أنابيبَ جديد، ما يجعل الصين المستورد الأكبر للغاز الروسي، إضافة إلى تواتر أنباء عن أنّ شركة الطاقة الروسية العملاقة “روسنيفت” (Rosneft)، المملوكة للحكومة، ستصدّر 25% من مجمل إنتاجها النفطي للصين.
من شأن هذه الاتفاقيات الطويلة الأمد والاستراتيجية تأمين الاستقرار في سوق الطاقة لكلا البلدين، الصين وروسيا على حدٍ سواء، وذلك في مواجهة تقلّبات سوق الطاقة العالمي التي تهدد أوروبا وآسيا. وفي هذا كلّه تدعيمٌ للتكامل الروسي الصيني في مجال الطاقة، الذي يعدّ أحد أهم المجالات الحيوية لدى الدول.
أما في مجال الفضاء، فقد وقَّعت كلٌ من الشركتين الصينية “بيدو” (BeiDou) والروسية “جلوناسس” (GLONASS)، اللتين تديران “أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية” الصينية والروسية، على اتفاقيةٍ جديدةٍ تزيد مدى التعاون بين النظامين الصيني والروسي، ليصل إلى حدّ التكامل بينهما.
تأتي هذه الاتفاقية الجديدة لتبني على الاتفاقية المسماة “التعاون للأغراض السلمية لنظامي بيدو وجلوناسس” (Cooperation in the peaceful use of the BeiDou and GLONASS)، والتي وقَّعت عليها الصين وروسيا في العام 2018.
وتتيح الاتفاقية الجديدة للنظامين الصيني والروسي مزيداً من التكامل والاستمرارية في حالتي السلم والحرب، إذ سيتمّ استخدام النظام المتكامل للأغراض العسكرية والمدنية على حدٍّ سواء، ناهيك بكون التكامل بين النظامين الصيني والروسي يعطي دقّة لا يتجاوز فيها هامش الخطأ 1.2 متر فقط، على عكس نظام التموضع العالمي “GPS” الأميركي الذي يتراوح هامش الخطأ فيه بين 5 و10 أمتار.
تنسيق المواقف
أما تنسيق المواقف بين البلدين تجاه القضايا الأمنيّة، كما جاء في البيان الختامي، فكان أبرزه يتمثل برفض روسيا القاطع استقلالَ جزيرة تايوان عن جمهورية الصين الشعبية. في المقابل، رفضت الصين مساعي حلف شمال الأطلسي (NATO) التوسع في أوروبا من دون مراعاة المخاوف الأمنية الروسية، وذلك في إشارةٍ إلى تأييد الموقف الروسي في الأزمة الروسية الأميركية الراهنة حول أوكرانيا.
كما نسَّق البيان الختامي مواقف البلدين تجاه قضايا أمنيةٍ أساسيةٍ أخرى في منطقة الإندو باسيفيك والقارة الأوروبية، كالمواقف من حلف “أوكوس” (AUKUS)، والحوار الأمني الرباعي المسمى “كواد” (Quad)، وقضايا أخرى.
رؤية الصين وروسيا إلى النظام العالمي
ما تَقدَّم من أمثلةٍ على بعض ما جاء في بيان القمة الختامي من صفقات استراتيجية وتنسيق لرؤى البلدين حول قضايا أساسيةٍ راهنةٍ في الجغرافيا السياسية، يعطي فكرةً عن الخطوات العملية والملموسة التي اتفق عليها العملاق الاقتصادي الصيني مع شريكه العملاق العسكري الروسي، للدفع نحو تطبيق رؤيتهما للنظام العالمي، والتي تقوم على فكرة أنّ العالم يخرج من مرحلة الهيمنة الأميركية الأحادية الجانب وتسلُّط فكر العولمة الليبرالية على العلاقات الدولية، ليدخل مرحلة التعددية القطبية، واحترام سيادة الدول، وحقّها بتقرير مصيرها وصياغة نُظُمِها السياسية والاقتصادية بما يتماشى مع موروث شعوبها الحضاري، إذ ترى الصين وروسيا أنَّ العلاقات الدولية تدخل حقبة جديدة. وكانت هذه الرؤية واضحةً في عدة فقراتٍ في البيان، وفي روح اللغة المستخدمة فيه عموماً.
جاء في مقدِّمة البيان: “يمرّ العالم اليوم بتغيراتٍ بالغة الأهمية، فالبشرية تدخل مرحلةً جديدةً من التقدم السريع والتحولات العميقة، وترى هذه الظواهر في التعددية القطبية، وعولمة الاقتصاد، وحلول عصر المجتمع المعلوماتي، وتنوع الثقافات، وتحوّل بنية إدارة الشؤون العالمية والنظام العالمي، ويشهد العالم زيادةً في مستوى الترابط والتكامل بين الدول، وتوجهاً لإعادة توزيع القوة حول العالم”. وتبرز جلياً في هذه المقدِّمة الإشارة الواضحة إلى نظام عالمي يقوم على التعددية القطبية وإعادة توزيع القوة بين الدول على رقعة العالم.
وتمضي مقدِّمة البيان ليتّضح المعنى أكثر، إذ يشير بعد ذلك إلى زيادة التحديات والمخاطر الأمنية على المستويين الدولي والإقليمي، ويضيف: “يستمرّ بعض اللاعبين الذين لا يمثلون سوى الأقلية على مستوى المجتمع الدولي بالتسويق للنهج الأحادي في معالجة القضايا الدولية، عبر اللجوء إلى القوة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، منتهكين بذلك حقوق تلك الدول ومصالحها المشروعة، ومثيرين القلاقل والخلافات، ما يعرقل تطور البشرية، في تحدٍ للمجتمع الدولي”، وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى الولايات المتحدة الأميركية ونهجها الذي يرتكز على الأحادية القطبية، لكن من دون ذكر اسمها صراحةً.
وتتكرّر هذه الإشارات إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإلى سعيها للهيمنة على دول العالم في عدة مواضعَ من البيان، فيشير البيان في إحدى الفقرات إلى عدم وجود وصفة واحدة لتطبيق الديمقراطية، بل إنَّ الشعوب وحدها تملك الحق بالحكم على نظامها السياسي إذا ما كان ديمقراطياً، ويعود لكلِّ شعبٍ حقّ اجتراح الطرق الأصلح له من أجل تطبيق الديمقراطية، بما يتماشى ونظامه السياسي والاجتماعي وخلفيته التاريخية وتقاليده وثقافته المميزة.
في المحصّلة، جاءت القمّة الصينية الروسية الثنائية استثنائيةً في توقيتها ومضامينها وبيانها الختامي، فكما عبَّر الرئيس بوتين عن أنَّ روسيا والصين تمران بمرحلة غير مسبوقة من الصداقة والتعاون في كلِّ المجالات من دون سقوف، يشير حجم الصفقات الموقعة وطبيعتها الاستراتيجية، إضافة إلى التصور الذي قدمته القمة حول مستقبل النظام العالمي الذي يتم العمل على ترسيخه، إلى تبلور معسكرٍ في مقابل معسكرٍ غربيٍ استعماريٍ تقليديٍ يضمّ “لاعبين لا يمثلون سوى أقليةٍ على مستوى المجتمع الدولي”، بحسب وصف البيان.
وغالب الظنّ أنَّ هذا المعسكر الناشئ سيكون جاذباً لأعضاء جددٍ، سواء أكانوا من العالم الإسلامي التواق إلى التخلص من الهيمنة الغربية، أم من بعض دول أميركا اللاتينية، أم من دولٍ أفريقيةٍ، حيث توسَّع النفوذ الصيني، كما الروسي، لكن بدرجةٍ أقل.
لكن لا يجب الخلط بين طبيعة هذا المعسكر الناشئ وما كان عليه حال المعسكر الاشتراكي إبان حقبة الاتحاد السوفياتي، فدينامية العلاقات الدولية وبُنية إدارة الشؤون العالمية الحاكمة لهذا المعسكر تنبثق من ركيزتين أساسيتين: تعددية الأقطاب، واحترام خصوصية كلّ شعب في تقرير شكل نظامه السياسي والاقتصادي بما يراه مناسباً.
إذاً، شيّدت الصين وروسيا الهيكلية لمعسكرٍ ناشئٍ وواعدٍ، وتبقى العِبرة في حُسْن التطبيق، وفي عدم تضارب المصالح بين القطبين الشريكين، جراء تبايناتٍ محتملةٍ في بعض الساحات، ولا سيما في منطقتي وسط آسيا وشرق أوروبا، لأنَّ روسيا تستمد حضورها الدولي من كونها عملاقاً عسكرياً، ما يمكن أن يجعلها تستخدم القوة لتثبيت موقعها الدولي في بعض الساحات، بما يتعارض ومصالح الصين التي ترتكز على كونها عملاقاً اقتصادياً.
ورغم هذه التخوفات، ولمحاولة استشراف مستقبل كِلَا المعسكرين، يكفي النظر إلى حجم مخرجات القمة الصينية الروسية وطبيعتها، ومقارنتها بنتائج قمة جو بايدن “من أجل الديمقراطية”، التي جاءت باهتةً وهزيلةً بكل المعايير، ولا سيما بعد نفور الكثيرين حول العالم من الأيديولوجية الليبرالية التي ما انفكت تروج لكلِّ أشكال الموبقات، من ترويجٍ للشذوذ الذي يضرب المجتمعات عبر هدم مفهوم العلاقات الإنسانيّة والأسرة السويَّة، إلى استنزاف موارد كوكب الأرض، إلى الحدّ الذي باتت معه استمرارية الحياة البشرية موضع تساؤلٍ. يلخّص الفيلسوف ألكسندر دوغين نتائج القمة الصينية الروسية بالقول: “المستقبل بالتأكيد للتعددية القطبية… عالَمٌ جديدٌ قد وُلِد”.