القضاء الأميركي يتدخل للفصل في خلاف دستوري بين أوباما والكونغرس
مكتب واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات الأميركية والعربية يسلط الضوء على الجدل والإستقطاب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في النظام السياسي الأميركي، فيعود إلى تاريخ العلاقة ويغوص في صياغة الدستور، وصولاً إلى الواقع، مستشرفاً مستقبل الرئاسة الأميركية.
تجدد الجدل والإستقطاب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في النظام السياسي الأميركي بتسليط الضوء على فعالية الصلاحيات الدستورية الممنوحة للرئيس، بموازاة سعي دؤوب من كلا الطرفين لتحدي الآخر. الدستور الأميركي منذ ولادته تضمّن نصوصاً بدت صريحة وواضحة بآفاق السلطات، خشية تغلب احداهما على الأخرى بفعل التجاذبات والتطورات الزمنية.
للرئيس الاميركي، مثلا، صلاحية تعيين ما يراه مناسبا في السلك القضائي والديبلوماسي ولقادة عسكريين وأعضاء حكومته والمناصب الأدنى في السلطة التنفيذية شريطة تقدّمه “لاستشارة وموافقة مجلس الشيوخ”. واخذت النصوص الأولى بعين الإعتبار الفوارق الزمنية بين تواجد اعضاء السلطتين الفعلي في مقر القرار، سيما وأن أعضاء مجلس الشيوخ يذهبون في عطل سنوية متعددة تدوم بضعة أشهر عائدين الى دوائرهم الانتخابية، بينما يمكث الرئيس في موقعه يمارس صلاحياته.
واعتبرت هذه الخاصية مدخلا للسماح للرئيس بتعيين الشخصيات التي يراها في مناصب محددة اثناء العُطل المتكررة لمجلس الشيوخ درءا للفراغ الاداري لا اكثر.
في الظروف العادية تستدعي ترشيحات الرئيس مصادقة أو مباركة من مجلس الشيوخ. أما في غياب انعقاد المجلس قد يقدم الرئيس على تعيين كفاءات مشروطة لفترة زمنية محددة إلى حين “موافقة” مجلس الشيوخ لاحقا.
المبرر الأساسي للنص الدستوري كان بحكم القيود المفروضة على حركة الممثلين السياسيين في الزمن الغابر التي كانت تتم مشياً على الأقدام أو عربات تجرها الخيول، قبل دخول عصر المواصلات السريعة كالقطارات والطائرات.
سعى كلا الطرفين في السلطتين استغلال النص لإسناد وجهة نظره ضد الآخر على مر العقود، وتفاقم الصراع منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، في عهد الرئيس رونالد ريغان الذي استغل الصلاحية افضل استغلال لتعيين اعوانه في مواقع حساسة خلال فترة اجازة مجلس الشيوخ؛ وفعلها ايضا بكثافة الرئيس السابق جورج بوش الابن، وجاء الدور الآن على الرئيس باراك اوباما. وادى تعيينه لثلاثة مرشحين خلال عطلة اعياد الميلاد، في 4 كانون الثاني/يناير 2012، “لمجلس علاقات العمل القومي،” ومرشح رابع لهيئة حماية اموال المستهلكين، إلى ردة فعل قاسية من خصومه الجمهوريين ونذروا انفسهم لمقاضاته.
واصدرت محكمة الاستئناف العليا قرارها آنذاك ببطلان صلاحية التعيينات التي تمت “خلال فترة انعقاد مجلس الشيوخ عوضا عن اجازته” المقررة، وفق النصوص الدستورية.
واستمعت المحكمة العليا مطلع الأسبوع إلى مرافعة للطرفين تمحورت حول “تعريف العطلة أو استراحة مجلس الشيوخ،” ومن يحددها، واعادت المسألة إلى السلطتين وحثهما معا في التوصل إلى أرضية فهم مشتركة، مما أشار إلى عدم رغبة القضاء الدخول في دهاليز سياسية خارج نطاقه، ومن جانب آخر تفادي المحكمة العليا تغليب وجهة نظر اي من الفريقين.
واللافت أن المحكمة العليا لم يسبق لها النظر بالمادة الدستورية للتعيينات التنفيذية التي تتم خارج انعقاد دورة مجلس الشيوخ. البت في المسألة سيترك تداعيات طويلة الأجل على حالة التوازن الدستوري الراهنة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. إذ إن الحكم ضد السلطة التنفيذية سيقوض نطاق صلاحيات الرئيس المعمول بها لما ينوف عن قرنين من الزمن؛ والحكم لصالح الرئاسة سيخل بالتوازنات الراهنة ويعزز صلاحيات الرئيس امام السلطة التشريعية.
وقد وصف الكساندر هاميلتون، أحد المؤسسين وعضو لجنة صياغة الدستور، التعيينات خارج جلسات الانعقاد العادية بأنها “وسيلة تعيين مكملة .. أو مساعدة” لسيرورة العمل في الحالات التي يتعذر فيها التعيين وفق الشروط العادية.
وأضاف موضحا “تنحصر صلاحية التعيين العادية بمنصب الرئاسة ومجلس الشيوخ سوياً، وعليه لا يجوز تطبيقها إلاّ في حال انعقاد مجلس الشيوخ، بيد أنه من غير اللائق الزام المجلس عينه بالإنعقاد المستدام للبت في تعيينات المرشحين عند توفر وظائف شاغرة خلال العطل، مما قد يكون ضروريا اتخاذ قرار بملئها دون تأخير”. استند معظم الرؤساء الى الثغرات الكامنة في غياهب تلك الصياغة لتعيين أعوانهم واقرانهم خاصة في الحالات التي يملك حزب الخصوم اغلبية مجلس الشيوخ.
وسريعا تنبه الرئيس جيمس منرو، عام 1832، إلى تسخير النص لتوسيع نطاق صلاحياته عبر وزير العدل آنذاك، ويليام ويرت، الذي اعتبر جواز ملأ الرئيس لمكان شاغر خلال فترة عطلة مجلس الشيوخ ان لم يستطع القيام به من قبل؛ وهي القاعدة التي استند اليها الرؤساء المتعاقبون منذ ذلك التاريخ، لنحو 190 عاما. وانتفض مجلس الشيوخ في عام 1863 للحفاظ على حيز صلاحياته بعدم التعامل مع التعيينات التي تمت في غيابه لحين مصادقته عليها بعد التئام جلساته. وانتقل بندول الحركة ثانية الى الناحية الاخرى عام 1940 عندما اقر مجلس الشيوخ بدستورية الاجراء المتخذ في عهد الرئيس منرو ووزير العدل ويرت.
جرت العادة استغلال النص من قبل الرؤساء المتعاقبين لتطويع الأمر بما يخدم برامجهم الخاصة، يشهد على ذلك الرؤساء ثيودور روزفلت، ورونالد ريغان وجورج بوش الأبن الذي طبقه زهاء 20 مرة خلال سنتين من بدء ولايته الرئاسية الاولى. كما استخدمه الرئيس اوباما ايضا في ولايته الرئاسية الاولى بالرغم من سيطرة حزبه الديموقراطي على اغلبية مقاعد مجلس الشيوخ.
لدى مجلس الشيوخ عدد من الخيارات باستطاعته اللجوء إليها لحرمان الرئيس من دستورية تعييناته. أولها الاستمرار في دورة الانعقاد الرسمي – وهو ما لجأ اليه رئيس المجلس الديموقراطي هاري ريد في نهاية عهد الرئيس السابق جورج بوش الإبن؛ واعلانه عن عقد جلسات صورية متكررة كل ثلاثة ايام مدركا في الوقت عينه غياب معظم اعضاء المجلس وتواجدهم في دوائرهم الانتخابية كي يحرم الرئيس بوش من المضي في تعييناته. مع العلم ان مجلس الشيوخ يخضع لسيطرة الحزب الديموقراطي راهنا، فان مجلس النواب لديه بعض الصلاحيات الأخرى من شانها افشال التعيينات خارج انعقاد جلسات المجلس. منها، ما تنص عليه الفقرة الخامسة من المادة الأولى للدستور بانه لا يجوز لأي من مجلسي الكونغرس الانفضاض ورفع جلساته لمدة تفوق ثلاثة أيام دون الحصول على موافقة المجلس الرديف. وعليه، لم يصادق مجلس النواب على رفع جلسات مجلس الشيوخ لمدة الثلاثة ايام المنصوص عليها في نهاية عام 2012، مما يفسر دعوات رئيس مجلس الشيوخ، هاري ريد، المتكررة لانعقاد مجلسه امتثالا للقيود الدستورية.
في حال تعيينات الرئيس اوباما المشار اليها، أوضح أنه اقدم عليها لادراكه نصوص صلاحياته المستندة إلى أن انعقاد جلسات مجلس الشيوخ الصورية، كل ثلاثة أيام، لا يمكن التعويل عليها إذ انها وباقرار المجلس عينه لم تكن تعقد لرغبة الاعضاء البت في الإجراءات العادية.
وأوضح مستشار البيت الابيض للشؤون القانونية أن “باستطاعة الكونغرس حرمان الرئيس من اتخاذ اجراءات لتعيين (ما يريده من شخصيات) خلال فترة عطلته عبر آلية بقائه منعقدا في حالة مستمرة والبت في الترشيحات المقدمة، ليس بوسعه المضي بذلك عبر آلية جلسات انعقاد صورية خلال تلك المدة”.
لم يرق التفسير للأعضاء الجمهوريين فحسب، بل أعرب بعض الأعضاء الديموقراطيين عن امتعاضهم من القفز على صلاحياتهم، ووجه السيناتور الديموقراطي ماكس بوكاس، عن ولاية مونتانا، نقدا للبيت الابيض للتعيينات التي اقدم عليها خلال العطلة دون الحصول على موافقة من الكونغرس. وقال: “موافقة مجلس الشيوخ على ترشيحات الرئيس هي آلية ضرورية منصوص عليها دستوريا وترمي إلى تعزيز اجراءات المكاشفة لصلاحيات السلطة التنفيذية وحماية كافة الأميركيين عبر ضمان مساءلة المرشحين في القضايا الحاسمة – والحصول على اجاباتهم”.
السلك القضائي لم يشاطر الرئيس اوباما تفسيره ومبرراته المقدمة، وأبطلت محكمة الاستئناف الفيدرالية التعيينات المذكورة لأسباب لا تتعلق باستخدام الانعقاد الصوري لجلسات المجلس.
واوضحت المحكمة أن آلية رفع الجلسات المشار اليها تمت وفق جلسة رسمية لمجلس الشيوخ، ولا ينطبق عليها تفسير “تعليق الجلسة” المتضمن في الفقرة الدستورية الخاصة بذلك. بل أعرب أغلبية القضاة عن رأيهم بأن المراكز الشاغرة لم تأتِ من وحي فترة العطلة، وعليه لا يجوز ان تُسدْ استنادا الى النص الدستوري المشار اليه.
المؤشرات الراهنة لتوجهات المحكمة العليا لا تدل على ارتياحها للاصطفاف إلى جانب السلطة التنفيذية في تبريراتها، بل أكدت إحدى قضاة المحكمة ايلينا كاغان، التي عينها اوباما للمنصب، أن الحل سياسي وليس قضائي، “فالأمر من اختصاص مجلس الشيوخ للبت فيه” عندما ينوي تعليق جلساته، والذي باستطاعته حينئذ التحكم بامكانية اقدام الرئيس او متى سيقدم على تعيينات مماثلة.
زميل كاغان المحافظ في المحكمة، انتوني سكاليا، هاجم الرئيس اوباما بشدة قائلا ان تعييناته خارج نطاق مجلس الشيوخ “تتناقض تماما مع النص الصريح للدستور،” مضيفا أن ذرائع الإدارة “مستندة الى فرضية ضبابية النص وتصب في خدمة مصلحة ذاتية للرئيس.
مستقبل الرئاسة الأميركية
لا تخلو اي نصوص دستورية من ثغرات تفرضها دورة التطور الإنساني والمجتمعي، ومن الطبيعي أن تسعى أي من السلطات السياسية للنفاذ من خلالها لتعزيز حيز الصلاحية والنفوذ لمصلحتها. وكان المستفيد الأول من ذلك السلطة التنفيذية عبر تاريخ الولايات المتحدة في القرنين الماضيين، على حساب السلطات التشريعية والقضائية المكبلة بقيود نصوص اشد وضوحا. ولا يخشى الرؤساء تجاوز حدود الصلاحيات الممنوحة التي يبررونها لاعتبارات الأمن القومي – الأمر الذي نادراً ما يلقى مساءلة من الكونغرس، وعادة تؤيد السلطة القضائية الذريعة المقدمة في حال تطور المسألة بالتسلسل.
أما التبريرات الرئاسية المستندة إلى صلاحيات دستورية فهي عادة ما تثير الجدل، ومن شأن تعيينات الرئيس اوباما سالفة الذكر تقويض نطاق الصلاحيات الرئاسية على الأمد البعيد وتآكل القدرة على المضي بالتعيينات المستقبلية التي لا تحظى باجماع مجلس الشيوخ.
كثيرا ما يلجأ الرؤساء لإصدار قرارات رئاسية نافذة المفعول، كاحدى الصلاحيات، عوضا عن اللجوء إلى التراتبية القضائية لإقرارها. بل ذهب الرئيس اوباما إلى ابعد من ذلك وسعى لتعديل نصوص قانونية تمنحه ميزة الإقرار واختيار النصوص التي ينبغي تطبيقها دون غيرها.
اجراء اوباما أوجد سابقة قانونية “لرفض التعيينات المخلة بالدستور”، وربما حفّز السلك القضائي التجرؤ على تقييد حيز الصلاحيات الممنوحة في المدى المنظور. من مفارقات القدر أن سعي السلطة التنفيذية لتنمية وتوسيع نطاق صلاحياتها قد يأتي بنتائج معاكسة تحد منها. في حال اقدمت المحكمة العليا على التلويح بأن السلطة التنفيذية تخطت حدود صلاحياتها الدستورية، فقد ينعش الجدل بروز قضايا اخرى مماثلة للمحكمة العليا البت بها واضعاف صلاحيات الرئيس.
الأمثلة متعددة على تبلور احكام قضائية تحد من سلطات الرئيس، أي كان. احدثها جاء قرار بالإجماع من محكمة الإستئناف الفرعية لواشنطن العاصمة مطلع الأسبوع لإبطال مفعول القيود التي تنوي الحكومة الأميركية، عبر هيئة الاتصالات الفيدرالية، فرضها على خدمات شبكة الإنترنت – حيادية الشبكة- استنادا إلى عدم موافقة الكونغرس عليها. بعبارة اخرى، الحق القرار القضائي ضربة بجهود الرئيس لتقنين خدمات شبكة الانترنت واقصاء بعض الخدمات المقدمة من التداول العام لتطوير الشبكة للعقود المقبلة.
في خطوة ملفتة للنظر، تقدّم ممثلون عن الحزبين في الكونغرس يوم 16 كانون الثاني/ يناير الجاري بمبادرة مشتركة تؤسس لقرار يحجّم صلاحيات الرئيس لشن الحروب الخارجية واستبدال القانون السابق الصادر عام 1973 إبّان الحرب على فييتنام، شارك فيها السيناتور الديموقراطي تيم كين والجمهوري جون ماكين. المبادرة الجديدة ترمي إلى الزام الرئيس بالحصول على موافقة مسبقة من الكونغرس قبل الإنخراط في عمل عسكري يستغرق اكثر من 7 ايام – خلافا للصيغة الاولى التي تمنح الرئيس فرصة 60 يوما قابلة للتجديد قبل الذهاب للكونغرس لابلاغه بالعمليات العسكرية الدائرة.
يشار الى أن البرلمان البريطاني أفشل قرار حكومته بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا شن عدوان على سورية، الأمر الذي دفع الرئيس أوباما تعليق جهوده ورغبته في الذهاب للكونغرس للحصول على موافقته آنذاك. المبادرة تنص أيضا على ضرورة ابلاغ الرئيس الكونغرس عن عمليات عسكرية سرية جارية في غضون 3 أيام بعد بدء العملية، وتقديمها لتصويت الكونغرس أن استغرقت اكثر من 7 أيام.
الرئيس اوباما والرؤساء السابقين من امثاله غير مرتاحين للقيود التي فرضها القانون الاصلي “سلطات الحرب” سيما وانه يقيد صلاحيات الرئاسة في استخدام الخيار العسكري، بينما اعتبره الرأي العام انه يوفر مرونة كبيرة للرئيس للذهاب الى الحرب اينما ومتى شاء.
قرار المحكمة العليا سلبا بشأن التعيينات الرئاسية قد لا يترك آثاراً مغايرة للرئيس اوباما بحكم سيطرة الحزب الديموقراطي على مجلس الشيوخ آنيا. أما إن تعدّلت موازين القوى واستلم الجمهوريون رئاسة المجلس إلى جانب مجلس النواب، باستطاعة أي ممثل جمهوري عندئذ تعطيل البت في تعيينات قد يقدم عليها الرئيس أوباما وإبقاء الأمر معلقاً. ولحين عقد وبروز النتائج الانتخابية النهائية، 4 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، بامكان الرئيس اوباما الطلب من اولئك الذين فازوا بمصادقة مجلس الشيوخ تقديم استقالتهم، أو بعضهم، كي يتمكن من تعيين من يرغب بهم في مكانهم، على ان يعيد الكرّة مرة أخرى مع مجلس الشيوخ عند انعقاده بعد نتائج الإنتخابات.
المصدر: موقع الميادين