«القاعدة» وموسم «الجهاد» في الغرب
صحيفة السفير اللبنانية ـ
حبيب فيّاض:
«يا أيها الفرنسيون إن تسلموا فهو خير لكم.. إن فرنسا اليوم من أئمة الكفر ولا رادع لها إلا حكم الله وإلا فضرب الرقاب».
هذا ما جاء، في تسجيل صوتي، على لسان المسؤول الشرعي لـ «تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» الشيخ حارث النظاري الذي تبنى باسم تنظيمه «الغزوة المباركة في باريس»، والتي نفذها مسلحان على مقر صحيفة «شارلي ايبدو» وأدت الى مقتل 12 شخصا.
هذه المرة، الارهاب القاعدي يضرب في عمق فرنسا. ليس ثمة ما يدفع الى الاعتقاد ان الهجوم على «شارلي ايبدو» هو فلتة شوط. كلام الشيخ القاعدي يرسم مسارا من التوقعات بأن فرنسا باتت في مواجهة فعلية ومفتوحة مع الإرهاب. كما ليس ثمة ما يمنع من التوقع بأن ينتقل فعل الإرهاب «الاسلامي» من فرنسا الى أماكن أخرى في أوروبا تبعا للقدرة المتاحة لدى الجماعات الارهابية. فالتحذير من الخطر التكفيري الزاحف الى الغرب، لا يندرج في سياق المبالغة أو التهويل بل هو واقع ممكن، ترجحه تجربة الإرهاب القاعدي المعولمة والعابرة للحدود والقارات. فالعملية التي استهدفت الصحيفة التي أساءت يوما للنبي محمد ليست، في ما يبدو، مجرد عملية ثأرية انتهت بتحقيق أهدافها. هي على الأرجح فاتحة عهد جديد من «الجهاد» ضد أوروبا «الكافرة» التي طالما أساءت للإسلام والمسلمين.
وقد لا يكون من المبالغة ما قيل عن اعتبار غزوة «شارلي ايبدو» 11 أيلول آخر أصاب فرنسا على غرار ما أصاب أميركا من قبل. الفارق هو ان الحدث الأميركي قد حصل بشكل أشد ترويعا ودموية ودفعة واحدة، في حين أنه يتوقع للحدث الفرنسي حصوله بالتقسيط وعلى دفعات، بحيث لا يعدو كون هذه الغزوة سوى خطوة أولى على طريق طويل من الغزوات المتتالية. ثمة فارق آخر، هو ان أميركا استطاعت استيعاب الضربة عبر احتلال أفغانستان والانتقال من الدفاع الى الهجوم من خلال مواجهة الارهاب في عقر داره، بينما الضربة التي تعرضت لها فرنسا قد جاءت من مواطنيها – حتى لو كانوا من أصول جزائرية عربية – وهي ليست بصدد احتلال أي دولة، ومضطرة للتموضع دفاعيا لدرء خطر الارهاب عنها.
ولعل أخطر ما في الواقعة الباريسية أن تكون انصرافا قاعديا نحو الغرب، في إطار محاولة لاستنهاض تنظيم «القاعدة» في ظل خفوت وهجه، وتراجع دوره، واستهلاك مخزونه الجهادي في أفغانستان. وأيضا في ظل طغيان العمل «الجهادي» في المنطقة من قبل «داعش» و «النصرة» على حساب الحضور القاعدي، حيث خرجت الأولى عن طوع أمير الجماعة أيمن الظواهري واصطنعت لنفسها أميرا ودولة بعيدا عن ارتباطها بـ «القاعدة»، فيما لم يعد للثانية ما يبرر ارتباطها بالتنظيم في ظل اكتفائها الذاتي تنظيميا وحصولها على دعم إقليمي شبه مفضوح، ما يجعل هذا الارتباط مقتصرا في أحسن أحواله، على العلاقة المعنوية المتحررة من المترتبات التنظيمية.
ومهما يكن، فإن الإرهاب التكفيري، على تنوعه، يتسع باستهدافاته على طريقة انتشار بقعة الزيت. المعركة المفتوحة، التي من المتوقع أن يخوضها التكفيريون ضد فرنسا، تضع الغرب برمّته أمام أفق مفتوح ومضاعف من المخاطر. الفعل التكفيري في بلاد الغرب، لن يتأخر قبل أن يكون له إيقاعه الخاص المنفصل عن إيقاع المنطقة وأزماتها. إذ على الأرجح أن يستمر هذا الفعل بوصفه خطرا دائما ومقيما على أساس الفتك بـ «الصليبي المشرك» في الغرب على غرار استهداف «الرافضي الكافر» أو السني «الفاسق» في العراق وبلاد الشام.
من حيث المقدمات، لم تخرج «الغزوة الباريسية» عن كونها نتاجا طبيعيا ومتوقعا للحراك التكفيري الذي تشهده المنطقة والعالم. لكن من حيث النتائج، تكشف هذه الغزوة عن ان إرهاب «القاعدة» ومثيلاتها بصدد الانتقال في نشاطه العنفي من الاقليمي الى العالمي، ومن ردة الفعل الى المبادأة، ومن الثأر السياسي الى «تبليغ» الإسلام ونشر الدعوة عبر السيف والقتل، ومن محاربة «المنكر والكفر» في بلاد المسلمين الى نشر الايمان عبر «الفتوحات» في بلاد الفرنجة الكافرين. فالحقيقة التي لا يمكن إغفالها في هذا الخضم هي أن الإرهاب «الإسلامي» العابر للحدود والقارات هو في أحسن أحواله وأوج قوته، وأن قدرته تتيح له اليوم التحول نحو العالمية في أكثر من اتجاه وفق إيقاع مرتبط بالإمكانيات المتاحة لديه، وليس وفق أجندة قائمة على أساس تحديد الأولويات.
حصول الغزوة الباريسية ليس سوى دليل على إمكان تكرارها. ولا يبدو أن الغزوة هذه مجرد حالة يتيمة وعابرة في مسار عمل الجماعات التكفيرية، بل هي عينة في سياق منتظم يقوم على وجوب النفير والتمكين في الأرض. وحيث توصد «الرحمة الإلهية» باب «الجهاد» في مكان، يفتح «اللطف الإلهي» أبواباً شتى في أماكن أخرى. فقبل الآن تشتت جمع التكفيريين في أفغانستان فاجتمع شملهم في وزيرستان الباكستانية. أخفقوا في سوريا، فتقدموا فجأة في العراق. لم يفلحوا في الهيمنة على الرمادي، فاحتلوا على حين غفلة نينوى. لم يتسن لهم إعلان الدولة في الأنبار، فأقاموها في الموصل. لم يستطيعوا التموضع في الحجاز، فاستعاضوا عنه باليمن. مؤخرا، انسحب هؤلاء من عرسال فتمددوا الى جرودها وعيونهم تتطلع الى البحر. واليوم أخفقوا في العودة الى فليطة السورية، فضربوا المدنيين في جبل محسن شمالي لبنان.
من السمات البارزة للمشروع «الجهادي» لدى التكفيريين هي أنه يتطلع الى الانتشار على امتداد العالم باعتبار عالمية الإسلام الذي «بعثه الله بالسيف بين يدي الساعة» بحسب تعبير الشيخ النظاري، من دون ان ينحصر نشر هذه الدعوة في بلاد الشام والعراق أو على بقعة من الأرض دون غيرها. فالرسالة الاساسية لـ «الإسلام التكفيري» هي أسلمة العالم على أساس الدعوة الى الدخول في الإسلام.. أو القتل بحد السيف.