الفوضى في القوقاز.. أحد أخطر أشكال الضغط الأميركي على روسيا؟
موقع قناة الميادين-
شارل أبي نادر:
اللافت في تصريحات بيلوسي خلال زيارتها أرمينيا، أنها أشارت إلى أن الولايات المتحدة لا تعلق على عضوية أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي ولا عن إمكان انسحابها من المنظمة.
كالعادة، يعبّر المسؤولون الأميركيون خلال زياراتهم الدورية أو الاستثنائية للدول التي تتعرض لأزمات داخلية أو لتهديدات خارجية، بأن الولايات المتحدة الأميركية قلقة بشأن أمنها، وبأنها تريد مساعدتها لتخطي هذه الأزمات، أو لمواجهة هذه التهديدات، وبأن واشنطن لا تريد أن تُجبِر هذه الدول على اتخاذ إجراء معين، وتترك لها الخيار، ولكنها تنصحها باتخاذه، وحيث يكون فرض اتخاذ هذا الخيار هو الهدف الرئيس لزيارة هؤلاء المسؤولين الأميركيين للدولة المعنية، تنفّذه الأخيرة، تماماً كما تريد واشنطن، وإلّا، تتفاقم فجأة الأزمات ويرتفع مستوى التوتر فجأة داخل هذه الدولة، وتتضاعف التهديدات الخارجية عليها، وتذهب مباشرة نحو الخراب والانهيار والفوضى الخلّاقة وغير الخلّاقة، بحسب التعبير المتعارف عليه عالمياً، في مقاربة الحرب الناعمة الأميركية.
هذا ما يبدو أنه حاصل لا محالة وعلى نحو شبه كامل في أرمينيا، بعد الزيارة الأخيرة لرئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي ليريفان، على خلفية الحوادث الدامية التي حصلت على الحدود بين الوحدات الأذربيجانية والأرمينية، وسقوط المئات بين قتلى ومصابين من الطرفين، إذ أكدت المسؤولة الأميركية في مؤتمر صحافي في العاصمة الأرمينية، أن الولايات المتحدة قلقة بشأن أمن أرمينيا وتريد المساعدة في هذا الأمر، مضيفة أن “الديمقراطية والسيادة ووحدة أراضي أرمينيا مهمة جداً لنا، ونحن هنا لتقديم مساعدتنا العملية، والخيار لأرمينيا، نحن هنا للتعبير عن استعدادنا للمساعدة”.
اللافت في تصريحات بيلوسي، أنها أشارت وعلى نحو اعتراضي خارج عن موضوع الزيارة المعلن أساساً، إلى أن الولايات المتحدة لا تعلق على عضوية أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي وإمكانية انسحابها من المنظمة، مشيرة إلى أن يريفان وحدها يمكنها اتخاذ مثل هذه القرارات.
في الحقيقة، لو سلمنا جدلاً بأن همّ واشنطن، كما عبّرت عنه بيلوسي في زيارتها لأرمينيا، هو أمن الأخيرة وحمايتها من التهديدات الجادة الأذربيجانية، فما علاقة منظمة الأمن الجماعي وانسحاب أرمينيا منها؟ وأليس بإمكان واشنطن التدخل بطريقة أو بأخرى، لمعالجة الأزمة بين يريفان وباكو من دون التطرق إلى هذا الموضوع؟ ولو كان أيضاً، همّ واشنطن أمن أرمينيا، فلماذا لم تتدخل علم 2020 وتعرض مساعدتها، عندما حصلت المواجهة الدامية بين أذربيجان وأرمينيا على خلفية الخلاف الجغرافي والتاريخي حول إقليم ناغورنو كاراباخ وبعض المقاطعات الحدودية الأخرى بين الدولتين؟ وقبل سقوط أكثر من 6 آلاف قتيل وعشرات آلاف الجرحى من الطرفين؟ وألم يكن ذلك وقتذاك كافياً لزيارة رسمية أميركية على هذا المستوى، والتدخل لعرض المساعدة وإنهاء الحرب وإيجاد تسوية؟
طبعاً، الذي حرّك الدبلوماسية الأميركية أخيراً وعلى هذا المستوى، هو هدف آخر بعيد عن أمن أرمينيا أو عن تثبيت وتسوية حدود أذربيجان، وهذا الهدف هو تحديداً للضغط على روسيا، وكيفية تضييق الخناق عليها وزيادة أطواق محاصرتها، لتكون بذلك، الفوضى في منطقة القوقاز التي تشكل الحديقة الخلفية الجنوبية لروسيا، أحد أهم عناصر الاستراتيجية الأميركية الطارئة في مواجهة روسيا.
فماذا تحقق واشنطن لو نجحت في دفع أرمينيا إلى الانسحاب من منظمة الأمن الجماعي؟ وكيف يمكن التأثير السلبي في روسيا فيما لو استطاعت إبعاد يريفان عن موسكو؟ وهل ثمة أهداف أخرى تتجاوز ملف الضغط على روسيا من هذه المناورة التي تقودها واشنطن في القوقاز؟
في موضوع منظمة الأمن الجماعي التي تضم إلى جانب روسيا، وبيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، التي استطاعت كل من جورجيا وأذربيجان وأوزبكستان الإفلات من الانخراط فيها -بدفع أميركي طبعاً– فقد أكد ميثاقها رغبة جميع الدول المشاركة في الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وأنه لن يتمكن الموقعون من الانضمام إلى تحالفات عسكرية أخرى أو مجموعات دول أخرى، ويُنظر إلى العدوان على دولة موقعة على أنه عدوان على كل الدول، ولذلك تعقد منظمة معاهدة الأمن الجماعي تدريبات قيادة عسكرية سنوية لدولها، لإتاحة الفرصة لها لتحسين التعاون والتنسيق بينها.
من هنا، أن تنسحب أرمينيا من المنظمة، فهذا الأمر وحده، من دون أن يرتبط بأي مضاعفات أو تأثيرات أخرى، سيكون له تبعات سلبية جداً على روسيا، على الأقل من الناحية المعنوية بداية، لما تعطيه موسكو من أهمية للمنظمة، أرادت منها في وقت من الأوقات، أن تكون حلفاً بقيادتها لمواجهة الناتو، كبديل معقول لحلف وارسو، الذي لم يعد موجوداً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
من جهة أخرى، ونظراً إلى ما يتمتع به موقع أرمينيا الجغرافي كرابط رئيس بين بحري قزوين والأسود، أو كنقطة ارتكاز وسطية بين جورجيا وأذربيجان وإيران وامتداداً إلى دول آسيا الوسطى، فإن خسارة موسكو نقطة الربط هذه (أرمينيا)، قد تؤدي إلى انفراط عقد منظمة الأمن الجماعي، أو على الأقل إلى إفقادها فعاليتها الإقليمية والدولية.
من الواضح إذن، أن الهدف الأميركي من إخراج أرمينيا من معاهدة الأمن الجماعي، يتمحور حول زرع الفوضى في الحديقة الخلفية لروسيا، أي في جنوب القوقاز، كنقطة ضغط أخرى على موسكو، لا تقل أهمية عن نقاط الضغط الأخرى عليها، من أوكرانيا غرباً، ومن فنلندا والسويد في الشمال الغرب، وإغراءات واشنطن عبر زيارة بيلوسي لأرمينيا، واضحة أيضاً، مع تهديدات خبيثة ومغلفة بتصريح بيلوسي المشتبه فيه، دعمته وواكبته بالمواجهة الدموية الحدودية مع أذربيجان، التي حصلت فجأة، في تجاوز فاضح لاتفاقية وقف إطلاق النار، التي كانت تضمنها وتراقبها وحدات أمن روسية، بدت عاجزة تماماً عن تنفيذ مهمتها في ظل تصعيد ناري مفاجئ وغير مسبوق، سقط فيه المئات بين قتيل وجريح من الطرفين.
ويبقى أخيراً هدف أميركي ثانٍ من وراء هذه المناورة، يتمثّل في استهداف إيران عبر اتجاهين: الأول أمني استراتيجي، من خلال خلق حال فوضى على حدودها الشمالية والشمالية الغربية، تسمح لـ”إسرائيل” بالتسلل وبالوجود الاستخباري والعسكري على تلك الحدود، عبر مسيراتها وراداراتها التي تقدّمها لأذربيجان. والاتجاه الثاني باستهداف إيران اقتصادياً، من خلال التأثير لاحقاً في خطوط النقل والمعابر التي تستفيد منها إيران اليوم، عبر معبر ميغري-نوردوز الحدودي الوحيد بين أرمينيا وإيران، وامتداداً إلى جورجيا والبحر الأسود.