العلاقات البينية في المنطقة.. تحولات ومفارقات
إلى أين تسير العلاقات بين دول المنطقة في ظل التطورات؟
موقع العهد الإخباري ـ
محمود ريا:
تبدو العلاقات بين الدول المؤثرة في الإقليم في طريقها إلى مزيد من التعقيد والإرباك، وذلك نتيجة تغييرات عديدة على المستوى الداخلي في هذه الدول فضلاً عن التطورات الإقليمية والدولية التي تفرض نفسها على هذه العلاقات.
يمكن تعداد الكثير من العوامل التي تلعب دورها في تعديل الصورة التي استقرت عليها العلاقات بين هذه الدول، وعلى رأسها مصر والسعودية وتركيا وقطر.
وإذا كان من غير المرغوب الرجوع إلى بدايات هذه التغيرات، كالتبديل الذي حصل على قمة السلطة في قطر، والإطاحة بمحمد مرسي في مصر، فإن وفاة الملك السعودي عبد الله، ومجيء الملك سلمان، والطاقم الجديد الذي استلم السلطة في ظله، شكلا نقطة الانطلاق لسلسلة من التفاعلات الملحوظة على مستوى العلاقات البينية وعلى مستوى التأثير على التطورات العامة في المنطقة، لتأتي بعد ذلك الصفعة الانتخابية التي تلقاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كتتويج لعملية التعقيد التي تتسم بها صورة المنطقة.
اليوم لم يعد الحديث عن انقسام في توجه الدول الخليجية واقعياً كما كان قبل سنة أو أقل، فلا قطر باتت تقف في وجه السعودية بشكل حاسم، ولا السعودية باتت إلى جانب مصر دون أي تخاذل، ولا تركيا في موقع الاستمرار في استخدام علاقتها مع قطر من أجل تنفيذ سياستها الخارجية على الأرض في منطقتنا.
لقد اختلطت الأوراق، فلم تعد العلاقة بين السعودية وتركيا تتّسم بالعداء الظاهر، بعد مجيء الملك سلمان وانتهاجه وجهة أخرى في العلاقة مع أنقرة والدوحة، ولم يعد النظام القائم في مصر متمتعاً بحماية سعودية مطلقة، تردفها حماية إماراتية لا تتزعزع، حيث بدأ الحديث يتصاعد عن افتراقات حقيقية في السياسة بين الرياض والقاهرة، على أكثر من صعيد، وفي أكثر من ملف، وعلى رأسها ملفا سوريا واليمن.
وفي السياق نفسه، لا تبدو قطر معادية للسعودية مثلما كان الحال أيام حكم الأمير السابق حمد بن خليفة في مواجهة الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا هي منخرطة في تحالف لا ينفك مع تركيا في مواجهة الدول الأخرى الفاعلة في هذا المربّع النافذ على مستوى المنطقة.
وحتى بالنسبة لتركيا، فهي الآن في شغل عن كل ما يحصل. قبل الانتخابات النيابية الأخيرة كانت أنقرة تحاول ترتيب الملفات مع السعودية، وفي حد ادنى مع مصر، مع استمرار الخلاف حول الحكم وقضية مرسي. أما الآن، فيبدو أن انعكاس ما جرى في الانتخابات سيكون قاسياً جداً على السياسة التركية في المنطقة، لا سيما مع اضطرار حزب أردوغان لعقد صفقات مع أحزاب غير راضية عن الخط العام لهذه السياسة، بما سينتج عنه التفافات و”تكويعات” لا أحد يستطيع الآن التكهن بفحواها.
تفاهم خفي
والسؤال الأبرز: ما انعكاس هذه التغييرات في العلاقات بين المربع النافذ على الأوضاع في المنطقة، وبشكل أكثر دقة، على التطورات في كل من سوريا والعراق.. وفي اليمن أيضاً؟
الأجواء توحي بأن اندفاعة “التفاهم الخفي” بين السعودية وتركيا وقطر حول الساحة السورية قد بدأت بالخفوت، ليحل محلها التنافس القوي بين مكوّنات الفسيفساء السورية والتي تتبع هذا الطرف أو ذاك، مع ما يعنيه ذلك من فشل في توحيد الجهود في مواجهة الدولة السورية والجيش.
وفي هذا السياق، يمكن وضع بعض التقدم الذي حققته الفصائل المحاربة في سوريا على حساب الجيش السوري في “الإطار التنافسي” وليس “الإطار التكاملي” بين هذه القوى، ما خلق خطوط تماس حقيقية ومعارك فعلية بين هذه المكونات، بدل أن تكون المعارك في مواجهة الجيش السوري وحده.
وهذا التنافس هو انعكاس لمحاولة كل طرف راعٍ للجماعات المتقاتلة في سوريا تجميع أكبر قدر ممكن من الأوراق، قبل وصول الأمور إلى أجواء حل سياسي معين، يُعمل عليه في العلن والخفاء، للأزمة السورية، دون أن يكون هذا الحل في متناول اليد حتى الآن.
وفي هذا الإطار يأتي المؤتمر الذي نظمته القاهرة للمعارضين السوريين قبل أيام، حيث يبدو أنه محاولة مصرية، تتمتع بشيء من الاستقلال، للإمساك بجزء من أوراق المعارضة السورية، وبما قد يُغضِب إلى حد ما القيادة السعودية التي تراهن في هذه الأيام على “جبهة النصرة” و”جيش الفتح”، دون غيرهما من مكوّنات القوى المحاربة للدولة في سوريا.
هذه الخلطة الغريبة ـ العجيبة للمواقف من الوضع في سوريا، تنعكس أيضاً على الوضع في العراق، حيث تبدو الرياض ضد الحكومة العراقية وضد “داعش”، وليست مع خيارات الولايات المتحدة بشكل مطلق، وهو موقف يدل على ضياع استراتيجي تعيشه القيادة السعودية إزاء الواقع الذي تعيشه المنطقة.
وهذا الضياع الاستراتيجي السعودي يعكس نفسه أيضاً في التعاطي مع الأزمة اليمنية، حيث تعيش القيادة السعودية عدة صدمات في آن: صدمة الفشل في تحقيق أي هدف من أهداف العدوان الذي تشنّه على اليمن، وصدمة امتناع دول عديدة ـ وعلى رأسها مصر وتركيا ـ عن الانخراط في العدوان بشكل فعلي، بعيداً عن التأييد الكلامي والمشاركة الرمزية، وصدمة انتقال الحرب إلى الداخل السعودي من خلال الهجمات التي يشنها الجيش واللجان الشعبية اليمنية على المناطق الحدودية بين البلدين، كردّ على العدوان الهمجي الذي يستهدف المدنيين في المدن اليمنية، وصدمة فقدان المخرج من هذا المأزق الذي أدخل مراهقو السياسة السعودية بلدهم فيه، في ظل الغياب الزهايمري للملك سلمان، وتحكم ابنه محمد بن سلمان بقرار الحرب والسلم في البلاد.
تخبط
هنا يجد القادة السعوديون الكثير من السخط في أنفسهم على مصر التي ترفض التورط أكثر فأكثر في الأزمة اليمنية، ويجد الكثير من المصريين في أنفسهم سخطاً مقابلاً على السعودية التي تحاول توريط بلادهم في حرب لا أفق لها، تحت ضغط المساعدات التي تقدمها الرياض لاقتصاد القاهرة المتعثر.
وترى السعودية أن تركيا ورّطتها في أزمة اليمن عبر إظهار التأييد الكلامي والامتناع عن تقديم أي تأييد فعلي، مقابل التشفي التركي من رؤية السعودية تنزلق إلى مستنقع اليمن دون أي أمل بالنجاة من تداعياته. ويأتي فشل أردوغان الآن في انتخاباته ليزيد من افتراق الموقفين السعودي والتركي من اليمن، كون الحكومة التركية الجديدة ستتألف من أحزاب عديدة لن ترى في الانخراط الأردوغاني في أوحال المنطقة مصلحة لتركيا.
وتقف قطر متفرجة على كل هذه الأحوال، مقدمة بضع طائرات لحليفها المستجد ـ السعودية ـ دون أن تقطع على ما يبدو علاقاتها الخفية مع حلفائها السابقين في اليمن، والذين تخوض السعودية حرباً شعواء ضدهم.
إنها متاهة كبرى من المفارقات والاصطفافات والافتراقات، ترسم صورة سوريالية لواقع المنطقة، بينما يُتوقع حصول تطورات أكثر إثارة، كالاتفاق النووي بين إيران والعالم، وما سيكون له من انعكاسات على موازين القوى، والانجازات الميدانية التي بدأت تتحقق في أكثر من موقع في لبنان وسوريا والعراق واليمن، لمصلحة محور المقاومة ـ بالرغم من بعض الانتكاسات المحلية هنا وهناك ـ بما يجعل الأسئلة تكبر أكثر فأكثر حول الاتجاه الذي تسير فيه المنطقة، وانعكاسه على العلاقات بين دولها، بل على هذه الدول نفسها.