الضاحية مفجوعة تجمع «أشلاء شهدائها»…. شهادات حيّة من تحت الدمار
صحيفة الجمهورية اللبنانية ـ
ناتالي اقليموس:
هي ليست من لحمه ودمه، حتى أنه لا يذكر اسمها، لكنه رغم ضخامة دوي الإنفجار وأزيز الزجاج المتصدّع، سمعها تناديه، فنزل من الطابق الثامن، حافي القدمين، لم تردعه الجدران المتساقطة، ولا ألسنة النيران الملتهبة. إلّا أنّ شبح الموت كان قد سبقه.. وجدها محترقة، نادى الله: «كيف لي أن أنقلها وهي أشلاء؟».
هذه واحدة من الضحايا الأبرياء التي حاول الحج حسان قاسم مساعدتها، هو المعروف بإندفاعه وحبّه للحياة، فكان أول من تنقّل بين الأهالي عارضاً مساعدته. بين الأشلاء المتناثرة، والأطفال العالقة، يتحدث الحج قاسم عن هول الإنفجار.
“كنت في منزلي حيث مكان الإنفجار، أقطن في الطابق الثامن، من الوهلة الأولى أدركت أنّ ما حدث إنفجار وليس زلزالاً، لم ننسَ بعد رائحة الموت في عدوان تموز”. ويضيف: “للوهلة الأولى نقلت زوجتي إلى السطح كي لا ينقطع عنها الهواء، وبعدها بدأت أتنقل بين الشقق وفي الطبقات أنقل الأهالي إلى السطح، أمسح الردم عن صدورهم، وزحفاً أنقلهم إلى حيث يتسنّى للدفاع المدني إسعافهم”.
تتزاحم الصور المؤثّرة في ذاكرة الحج قاسم، فيبكي متأثراً على شابة وجدها عارية، متفحّمة عجز عن إسعافها، وعلى طفل رضيع، لفظ أنفاسه. فيقول: “شعرت وكأنّ أحداً يناديني في الطابق الثاني، فتحدّيت ألسنة النيران وتوجّهت بحثاً عمّن أساعده، بذلت كلّ ما في وسعي، لكن عرقل مهمتي الردم والزجاج والدخان”.
أكثر ما يحزّ في نفس الحج قاسم رؤيته لصديقه الحلاق، فيخبر: “آخر ما كنت أتوقعه رؤية صديقي الحلاق تحت الركام، مفتوح العينين، فبعدما تأكّدت أنه لفظ أنفاسه الأخيرة، أغمضت له عينيه وقرأت عن روحه الفاتحة”.
[كلّ من استشهد، ضاع
أو جرح هو إبني،
“كلّن ولَيْداتي.. أقسم”]
في هذا الإطار، تروي سيّدة أنّ أحداً من أقاربها، كان عند الحلاق حسين بيضون، وهو جاء من كندا استعداداً لزفافه، إلا أنه من المصادفة كان عند الحلاق، والإنفجار أودى بحياة كلّ منهما.
ماتت والدته… وينتظرها
“هلّق بتوصل الماما، وبعد شوي بيجي البابا بيشوفني”. على وقع هذه العبارة عبثاً حاول الطفل شادي سنو (12 عاماً) أن يغمض عينيه، أمس، على أمل رؤية وجه أمه ويتباهى بنجاته امام أبيه. فهو منذ يومين ينتظر زيارتهما له، من دون أن يعرف حقيقة ما حدث.
بعفوية طفولية يروي لـ “الجمهورية”، ما يتذكّره: “كانت والدتي ترضع شقيقي الصغير، أما والدي فيحرس البناية، فهو يعمل كناطور، لم أنتبه إلّا إلى انّ التلفاز وقع على رأسي وسمعت والدتي تناديني، وفي ما بعد إستيقظت وأنا في المستشفى، والآن أنتظرها”.
في هذا السياق يلفت أحد الأقارب إلى أنّ “الوالدة خديجة فارقت ورضيعها الحياة، ويُحضّر الأقارب مراسيم تشييعهما، في وقت تبدو حال الوالد حرجة”، مشيراً إلى انه “منذ مدة قصيرة هربت العائلة من دمشق خوفاً من الموت”.
… «فداء السيّد حسن»
وفي جولة قمنا بها على عدد من المستشفيات التي إستقبلت الجرحى والضحايا، عبارة واحدة تكرّرت على ألسنة معظم الأهالي: “ما خسرناه قليل لفداء السيّد حسن نصرالله، كلو بيتعوّض”.
من سريره في مستشفى بهمن، يروي الشاب محمود فقيه إبن 26 سنة ما حدث معه، “بينما كنت مستلقياً في غرفة الجلوس، لم أجد إلّا زجاج المنزل يتطاير، وتستقر مجموعة من الشظايا في مختلف أنحاء جسدي، وأبرزها في عيني.
لم أفهم ما حدث في بداية الأمر، خصوصاً أنّ نزيفاً حاداً في عيني صعّب عليّ مشقة الإطمئنان على شقيقتي الصغرى ووالدي”. ويضيف: “لطفت العناية الالهية بوالدي النائم، فحائط غرفة النوم لم يسقط إلى الداخل إنما نحو الطريق”.
فتقاطعه والدته نوال، قائلة: “لم أجد سوى الدماء على جدران المنزل فمسكت يده وهرعت للخروج لأقرب مستشفى. بصعوبة خرجنا لأنّ ألسنة النيران كانت بدأت تلف الأبنية. ركبنا في أول سيارة إسعاف ووصلنا إلى مشفى بهمان”.
وبنبرة حاسمة تنضح إصراراً، تقول: “ما قدّمه إبني مجرّد ذرة في مسيرة المقاومة العظيمة، لا بل نعمة، لنبلغ النصر لا بد من تقديم التضحيات، ولا أنكر أنني أشعر بالحزن عندما يقدّم غيري الأموال، البيوت والأرواح في سبيل المقاومة وأنا لم أقدّم شيئاً، لذا اليوم أشعر بالغبطة والإفتخار والعزة ولو أنّ المنزل تدمّر وابني مصاب، حتى لو رُزق الشهادة أعتبرها نعمة إلهية”.
صدفة أم عناية إلهية؟
قصّة الجريح أحمد يزبك لا تخلو من الغرابة، لا بل تنضح “رأفة إلهية” على حد تعبيره، بحماسة لامتناهية يروي لـ”الجمهورية” حقيقة ما حصل معه: “أقطن بعيدا من مكان وقوع الإنفجار، ولكن بعد ظهر الخميس قرّرت إصطحاب ابني لزيارة طبيب أسنان عيادته تقع في الطابق الأول من مبنى “محفوظ ستور”.
وقبل حدوث الإنفجار حاول الطبيب تخدير ابني إلّا انه خاف من الإبرة وهرب بإتجاه “الكوريدور”، فلحقت به وفجأة دوى صوت الإنفجار”. كلّما عاد المشهد إلى ذهنه، تتقطّع أنفاس الوالد ويبكي تأثراً. يغوص في صمت طويل، قبل أن يتابع قائلاً: “لا شك في اننا صُعقنا، استمررت ممسكاً بيد إبني وهرولنا نحو الطريق بحثاً عمّن يساعدنا. بصراحة دقائق معدودة مرّت كدهر”.
من جهته، اعتاد علي زعيتر متابعة التلفاز وأولاده عصر كل يوم في المنزل، إلّا أنه يوم وقوع الإنفجار إنتابه شعور بالملل، لذا خرج مع أسرته. وبعيون تلمع دهشة يخبر لـ”الجمهورية”: “قبل 3 ساعات من وقوع الإنفجار خرجت وأسرتي نحو البقاع، ولم نكد نصل حتى سمعنا بالخبر، وعلى الفور عدت أدراجي متفقداً المنزل”.
يصعب على “علي” حبس دموعه، هو الذي جاء يتفقد ما يمكن إخراجه من أوراق رسمية وأغراض مفيدة، إلّا انه وجد شقته مدمّرة ومتجره “فحمة” على حدّ تعبيره، فحاول تمالك أعصابه متمتماً: “إذا الدولة نسيتنا الحزب ما بيبخل علينا”.
منذ 35 عاماً …
رغم أنها لم تخسر أحداً من أولادها، ولم تفقد أياً من أقربائها، إلّا أنّ الحجّة سميحة النابلسي أبت ترك مكان الإنفجار، فوقفت منذ الخامسة فجر أمس في أول الشارع، تسبّح خالقها مردّدة آيات قرآنية على أرواح من استشهدوا، على نيّة من فقدوا، مستجدية سرعة الشفاء لمن جرحوا.
من قلب مجروح، تروي لـ “الجمهورية”: “كنت أجلس في منزلي أشاهد التلفاز، ولم أسمع إلّا بدوي إنفجار تبعه تناثر للزجاج، للوهلة الأولى ظننتها هزّة أرضية لولا تصاعد الدخان ومعانقة ألسنة النيران السماء”.
وتضيف: “بصراحة لا أذكر أبداً أنني سنّية في الأصل، منذ 35 عاماً أعيش في الرويس وجيراني بمعظمهم من الشيعة، منسجمين كعائلة واحدة، أعرفهم “واحداً واحداً”، لذا كلّ من استشهد، ضاع أو جرح هو إبني، “كلّن ولَيْداتي.. أقسم”.
وبنبرة غاضبة تسأل: “هل هكذا تُبنى الحرية ونبلغ فجر الديمقراطية؟ “يا محلا شو عملت إسرائيل فينا! قد يكون ذلك أرحم”.