«الشناشيـل».. شـواهـد علـى الـزمـن العـراقـي الجميـل
دويتشيه فيلله:
عند الحديث عن العمارة في العراق، لا بد من الوقوف على واحد من أهم المعالم المعمارية التي تحاكي الهوية الجمالية للمدن العراقية، وهو «الشناشيل»، التي تعاني اليوم الإهمال والتآكل والقِدم.
بين الأزقة الضيقة في سوق حنين في حي «التوراة»، التابع لمنطقة «قنبر علي» في العاصمة بغداد، تقتادك رائحة خشب «الساج» الرطبة المنبعثة من واجهات تلك المنازل المبنية من الخشب والزجاج، التي تُعرف في اللهجة العراقية باسم «الشناشيل».
في هذه المنازل، التي ترتبط في الذاكرة العراقية بسحر أنغام آلة المربع والمقام البغدادي ورائحة الشاي العراقي وعبق الماضي البغدادي الجميل.
«الشناشيل»، ومفردها «شنشنول»، هي شرفات خشبية مزخرفة هندسياً بالرسم على الزجاج، تعمل على إبراز واجهة الطابق الثاني من المنزل بأكمله أو غرفة من غرفه بشكل شرفة معلقة بارزة إلى الأمام.
وتمتاز مناطق «الشناشيل»، وهي في أغلبها اليوم أحياء شعبية تهيمن عليها روح التقاليد المحافظة، بالبساطة التي تجدها متجسدة في النساء اللواتي يفترشن عتبات تلك البيوت، بينما تقوم الفتيات بالنظر إلى المارة في الشارع من خلف النوافذ الخشبية المرصعة بالزجاج الملون، والتي صممت كالشرفة للتقارب مع البيوت الأخرى.
واشتهر يهود العراق في التاريخ المعاصر ببنائهم لبيوت «الشناشيل» في أغلب مناطق سكنهم، والتي كانت توصف بالمناطق الجميلة والغنية. لكن، بعد خروجهم من العراق وسلب ممتلكاتهم، في ما بات يعرف بـ«الفرهود»، عانت هذه المناطق الإهمال ولم تشهد أي عملية إعمار منذ أربعينيات القرن الماضي.
ويروي عودة عباس خدام، أحد القاطنين في محلة «التوراة»، تاريخ منطقته التي وصفها بـ«العراق المصغر».
يتذكر خدام (73 عاماً) طفولته عندما كان حرفياً في ورشة أحد النجارين اليهود في سوق «حنين»، وكان حينها لم يتجاوز الـ18 من عمره. ذاكرة خدام لا تزال تستحضر أدق التفاصيل وكيف كانت «الشناشيل» آنذاك براقة تحت شمس النهار، لتبهر المارة بألوانها وزخرفتها، وكيف كان الضوء ينعكس إلى داخل البيوت ملوناً. وبحسب المختصين بفن العمارة، فإن «الشناشيل» ظهرت لأول مرة في العراق في مدينة البصرة في القرن الـ17 ميلادي، متأثرة بمثيلاتها التركية والهندية. وانتقل هذا الطراز إلى بغداد وبقية مدن العراق.
يذكر أن «الشناشيل» وردت في الكثير من القصائد والقصص والروايات، وربما في مقدمتها قصيدة الشاعر العراقي الحداثي بدر شاكر السياب، «شناشيل ابنة الجلبي». كما جُسّدت في اللوحات التشكيلية والأعمال النحتية أيضاً، ناهيك عن الصور الفوتوغرافية، التي قدمها العديد من الأدباء والفنانين العراقيين.
أما ضياء كاطع، أحد مُلاك بيوت الشناشيل، فيرى أن «الأسلوب المعماري الذي امتازت به الشناشيل عن غيرها من بيوت المحلة أضفى عليها نكهة خاصة في تاريخ التراث البغدادي المعماري».
وأشار كاطع (53 عاماً)، إلى أن «هذه البيوت تعتبر قطعاً فنية نادرة لما لها من جمالية في طرازها وهندستها المعمارية». ويحرص كاطع، الذي عاصر هدم العديد من بيوت «الشناشيل»، على الإبقاء على بيته بهذا الأسلوب لكونه «تحفة فنية»، برغم هدم العديد من هذه البيوت واستبدالها بمنازل عصرية، أو تحويلها إلى مخازن أو ورش عمل.
من جانبه، يرى المهندس المعماري موفق الخياط أن «الشناشيل تمثل مزيجاً بين الفن والعمارة والحضارة، التي خلدت إرثاً معمارياً جميلاً»، مبيناً أن «هذا الإرث قد أصابه الخراب على مر الأيام وبانتظار من يعيده إلى الحياة».
وعن الأهمية المعمارية لـ«الشناشيل»، يقول الخياط، (45 عاماً) إن «الشناشيل على اختلاف تصاميمها، تمنع دخول أشعة الشمس بصورة مباشرة إلى المنزل، ويتم ذلك بواسطة النوافذ ذات المشبكات الخشبية المثلثة (…) فضلاً عن توفيرها (الشناشيل) الظل للزقاق أو الشارع.
ويختتم الخياط حديثه بالقول ان «وضع الشناشيل في الطابق العلوي من المنزل أدى إلى تقارب سكان بيوت الشناشيل، بحيث يسمح للعائلات بتبادل التحيات والأخبار وشتى الأحاديث من خلالها، ما أثر في تقارب العلاقات الاجتماعية في ما بينهم».