الشرق الأوسط يبتعد عن ابتزاز أمريكا
صحيفة البعث السورية-
عناية ناصر:
جاءت زيارة بلينكن الأخيرة إلى السعودية بعد أسابيع قليلة من زيارة أجراها إلى المملكة مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية بيل بيرنز خلال شهر نيسان الماضي، وكذلك زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي، جايك سوليفان.
تلك الزيارات المتكرّرة لكبار المسؤولين الأمريكيين إلى السعودية جاءت مدفوعة باعتبارات إستراتيجية أعمق وأكبر ولتعزيز العلاقات المتوترة، إذ تعتبر السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم. كما تظهر زيارة بلينكن أن الولايات المتحدة تولي أهمية كبرى لعلاقاتها مع السعودية التي أصبحت تغرّد خارج فلك الولايات المتحدة، وخاصةً بعد موجة المصالحات في الشرق الأوسط.
إن الولايات المتحدة حريصة على استقرار علاقتها مع السعودية، وإنقاذ نظام تحالفاتها غير المستقر في الشرق الأوسط. ومع ذلك، هناك تناقضات في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهي بعيدة كل البعد عن الواقع الجيوسياسي الجديد في المنطقة. لذلك، من غير المحتمل أن يكون لزيارة بلينكن أي نتائج مهمّة.
ناقش بلينكن خلال زيارته القضايا الثنائية، والعديد من القضايا الخلافية مع الجانب السعودي، بما في ذلك الحرب في السودان، والتطبيع مع “إسرائيل”. وبالإضافة إلى القضايا التي تمت مناقشتها، كان الهدف من زيارة بلينكين تحقيق الأهداف الثلاثة التالية:
أولاً: تأمل الولايات المتحدة تعزيز التنسيق مع السعودية بشأن سياسة الطاقة، فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، استخدمت الولايات المتحدة تكتيكات عديدة ضد السعودية لضمّها إلى المعسكر الأمريكي لسدّ فجوة العرض الناجمة عن الحظر النفطي الروسي من خلال زيادة إنتاج النفط، واستقرار أسعار النفط، وتخفيف الضغوط التضخمية المحلية، لكن السعودية عملت على تعزيز التعاون مع روسيا في إطار “أوبك+” وقيّدت الإنتاج عدة مرات، الأمر الذي اعتبرته الولايات المتحدة بمثابة إهانة لها. ومباشرة قبل زيارة بلينكن، توصلت مجموعة “أوبك+” إلى اتفاق لتمديد تخفيضات الإنتاج إلى العام المقبل. كما أعلنت السعودية أنها ستخفض مليون برميل من النفط يومياً في تموز القادم لتعزيز أسعار النفط المتدنية. يعكس فشل تنسيق سياسة الطاقة أن السعودية والولايات المتحدة قد تغيّرتا من شريكين متعاونين إلى منافسين في مجال الطاقة. وهذا التغيير طال بشكل أساسي التحالف بين البلدين المبنيّ على المنطق القائل بأن الولايات المتحدة توفر الأمن للسعودية مقابل إمداداتها النفطية.
ثانياً: فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية، فإن الولايات المتحدة حريصة على الحدّ من انتشار آثار مدّ المصالحة في الشرق الأوسط بعد نجاح الصين في تسهيل المصالحة، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في شهر آذار الماضي. انطلقت موجة “مصالحة” ذات إمكانات قوية في الشرق الأوسط، ووصلت ذروتها بالتوصل إلى الاتفاق الإيراني السعودي التاريخي، والذي أعاد خلط الأوراق في الشرق الأوسط. إن هذه التغييرات الجيوسياسية السريعة تتعارض مع رغبات الولايات المتحدة وتسرّع من تراجع القوة الأمريكية في الشرق الأوسط.
ثالثاً: فيما يتعلق بمنافسة القوى العظمى، تحاول الولايات المتحدة استبعاد الصين وروسيا من الشرق الأوسط، حيث تتلاقى عوامل المنافسة الدولية مثل الموارد والأسواق والتكنولوجيا والجيش. فمن ناحية، تقوم الولايات المتحدة بتنفيذ انكماش استراتيجي في الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى، فهي تأخذ حذرها بقوة ضد دول مثل الصين وروسيا وإيران، وذلك للتأكيد على أنها لاعب قويّ سيظل موجوداً في المنطقة، وأنها لن تترك فراغاً يملؤه منافسون آخرون.
تبذل الولايات المتحدة قصارى جهدها لعرقلة التعاون الاستراتيجي بين دول الشرق الأوسط من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، وتطلق خطط تعاون جديدة لمواجهة نفوذ البلدين. خلال زيارة سوليفان للسعودية في أيار الماضي، ناقشت الولايات المتحدة مشروع سكة حديد لربط الشرق الأوسط بالهند، ويهدف المشروع إلى الانخراط في “حرب البنية التحتية” مع الصين، وتعطيل تقدم مبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها الصين في الشرق الأوسط. ومع ذلك، أدّت التناقضات العديدة بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى الهاوية، ونتيجة لذلك لا يمكن للزيارات المتكررة لكبار المسؤولين مثل بلينكن أن تغيّر من واقع النفوذ المتراجع للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
بعد أن تقلّص الولايات المتحدة وجودها العسكري، من المحتم أن يسعى حلفاؤها في الشرق الأوسط إلى الحصول على استقلال استراتيجي، وتخفيف التوتر الاستراتيجي مع الخصوم الإقليميين. كما سيؤدي الانحدار النسبي العام لقوة الولايات المتحدة، وتقليص مواردها وامداداتها في الشرق الأوسط حتماً إلى تدهور نظام تحالفها في الشرق الأوسط.
إن سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط متأخرة كثيراً عن التغيرات في المنطقة، وعكس التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط الاتجاه التاريخي، حيث تسعى دول المنطقة إلى الوحدة والتنمية والاستقلال الاستراتيجي. ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحاول كسب سلطة التحكم بشؤون الشرق الأوسط من خلال إثارة الصراعات الإقليمية ومواجهة المعسكرات على أمل الاستفادة من الفوضى. ورغم ذلك، تشير موجة المصالحة في الشرق الأوسط إلى أن الولايات المتحدة متخلفة عن متغيّرات العصر، وأن سياستها في الشرق الأوسط التي تتعارض مع التيار ستعاني حتماً من الهزيمة.
من هنا، يجب ألا تحدّد عقلية الحرب الباردة العلاقة بين الشرق الأوسط والقوى الكبرى، وألا تنظر الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط على أنه ساحة معركة جديدة للمنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا. ومع ذلك، فقد أصبحت مصالح دول الشرق الأوسط شديدة التنوع، ولم تعد مستعدة لإتباع الولايات المتحدة بشكل أعمى، والعمل بمثابة بيادق في استراتيجيتها العالمية. وبدلاً من ذلك، فإنهم يصوغون سياسات خارجية بناءً على مصالحهم الوطنية الخاصة، ويتعاملون مع قوى كبرى متعدّدة، ويسعون إلى تحقيق توازن متنوع.
لم يعد سيناريو حشد الحلفاء لمقاومة الصين وروسيا، وهو أسلوب الحرب الباردة للولايات المتحدة، ممكناً في الشرق الأوسط، حيث يعكس التعاون النابض بالحياة بين الصين ودول الشرق الأوسط في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار، فضلاً عن التنسيق الوثيق بين روسيا والدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط بشأن سياسات الطاقة، عدم فعالية وجدوى عقلية الحرب الباردة.