السياسـة الأمريكيـة الجديـدة فـي الشرق الأوسط

السياسـة الأمريكيـة الجديـدة فـي الشرق الأوسط

لأولويــات الأربعـــة.. حدد الرئيس ‘باراك اوباما’ أخيراً سياسته الجديدة في الشرق الأوسط للمرحلة المقبلة، والتي تمثلت وفق ما أُعلن عنه رسميا السبت الماضي، في العناوين التالية: التفاوض مع ايران بشأن برنامجها النووي، والعمل على وقف الصراع في سوريا، وضمان إمدادات النفط، واتفاق السلام بين اسرائيل والفلسطينين.

وتأتي هذه الأولويات كمقدمة تمهيدية للإستدارة الأمريكية نحو آسيا المحيد الهادي، وهي الإستراتيجية التي أقرها الرئيس ‘باراك أوباما’ مطلع عام 2012، وسبق أن تحدثنا عنها بإسهاب في مقالة بعنوان: “السعودية: نهاية اللعبة”.

هذه أربع عناوين رئيسة تندرج ضمن الإتفاق الإطار الروسي الأمريكي الأخير، ويتضمن كل عنوان على حدة سلة من القضايا التي التزم الطرفان العمل على مناقشة تفاصيلها والوصول إلى حلول متوافق بشأنها، فيما يشبه إعادة تقسيم للنفوذ وترتيب جديد لخريطة المصالح في المنطقة، في إطار من التعاون والتكامل والتنافس المشروع بدل الصراع والتصادم.

وفي هذا الصدد، ذكرت مصادر البيت الأبيض للإعلام، أن هذه الأولويات تمثل خلاصة ما توصلت إليه مستشارة الأمن القومي ‘سوزان رايس’، التي كانت تجتمع مع بعض مساعديها في “مطبخ” مغلق، من أجل استعراض السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط وتصحيح مسارها وفق التوجه الجديد الذي ينسجم مع أولويات الولايات المتحدة في المنطقة.

خلفيــات تصحيــح المســار..

ووفق ذات المصادر، فإن الهدف من هذه المراجعة، كان رغبة الرئيس ‘باراك اوباما’ تفادي الفخ الذي وقع فيه الرؤساء السابقون الذين استنزفتهم أحداث الشرق الأوسط، وتصحيح السياسة الأمريكية التي عرفت إخفاقات ديبلوماسية وصفتها صحيفة ‘واسنطن بوست’ بتاريخ 26-10-2013 بـ”الكارثية”.

فأداء الإدارة الأمريكية الرديىء على نحو غير عادي حيال إضطرابات “الربيع العربي” مثلا، جعل ‘نوح شاكتمان’ رئيس تحرير مجلة ‘فورين بوليسى’ يطرح على موقع ‘تويتر’ السؤال التالي: “هل هناك أى بلد على هذا الكوكب ترتبط الولايات المتحدة معه بعلاقة أفضل مما سبق، باستثناء إيران؟”.

وهي إشارة ذكية للتغيير السلبى الحاد على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية خلال سنة 2013 تجاه كلاّ من مصر والسعودية وروسيا، وفضيحة التجسس التي كشف عنها مستشار الأمن القومي ‘سنودن’، وخلفت تداعيات سلبية على مستوى دول العالم بمن فيهم الحلفاء. وتصاعد العداء في العالم العربي للسياسات الأمريكية المنحازة لإسرائيل وضد إرادة الشعوب في التغيير وتقرير المصير. ومحاولة مصر التفلّت من الهيمنة الأمريكية والتوجّه نحو روسيا، واتخاذ أنقرة خطوات بعيدة عن المحور الغربى الذى تقوده الولايات المتحدة، حيث ذهبت لشراء أنظمة تسليح صينى، كما كشف رئيس وزراءها ‘طيب أردوغان’ عن حلقة تجسس إسرائيلى لإيران مكنت طهران من إعتقال 10 جواسيس يعملون لصالح الكيان الصهيوني الأسبوع المنصرم، وهو ما يؤكد فشل وساطة ‘أوباما’ بين تركيا وإسرائيل ربيع هذا العام، والمسافة التي بدأت تتخذها أنقرة من تل أبيب لفائدة تقارب تركي إيراني يضمن حصتها من كعكة النفط والغاز في المنطقة.

وفي إطار ذات السياسة التركية الجديدة، قرر رئيس الوزراء ‘رجب طيب أردوغان’ القيام بزيارة رسمية إلى روسيا، في 22 تشرين الثاني/نوفمبر. حيث ينوي عقد اجتماع مع الرئيس الروسي ‘بوتين’، وهو اجتماع مخصص لتقييم نتائج التعاون المشترك وتحديد المهام المطلوب تحقيقها مستقبلا. ومن مشاريع التعاون المشترك بين روسيا وتركيا الجديدة، إنشاء محطة نووية لإنتاج الكهرباء في تركيا، وإنشاء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى جنوب أوروبا عبر البحر الأسود. وفق ما أفادت وكالة ‘نوفوستي’ هذا الأسبوع.

وتسعى تركيا من خلال هذه السياسة الجديدة لتتحول إلى معبر رئيسي للنفط والغاز العالمي القادم من روسيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان وقطر تجاه أوروبا، ما يأهلها للعب دور إقتصادي محوري بين الشرق والغرب. وهذا الدور هو لعمري أصلح لتركية من الدور الإديولوجي “الإخونجي” الذي كان ‘رجب طيب أردوغان’ يسعى من خلاله لإستعادة حلم السلطنة العثمانية، والذي كاد أن يخرجها من لعبة الأمم بالشرق الأوسط، لولا تراجعها، وتعديل مسارها، وتغيير سياساتها، عندما فهمت بسرعة الإستدارة الأمريكية الجديدة، فراهنت على حلف الممانعة والمقاومة لإنقاذ إقتصادها المتداعي، لتعود من البوابة الإيرانية، وتترك السعودية تائهة في أوهامها العبثية ومشاريعها الكيدية الفاشلة.

وهذا بالذات ما يفسر بداية التحول التركي في الملف العراقي مؤخرا، ثم السوري واللبناني من خلال البوابة الإيرانية. وكعربون محبة ساهمت أنقرة في حل قضية “مخطوفي أعزاز” بمعية الدوحة التي هي بدورها بعثت برسائل ود إلى الرئيس ‘الأسد’ عبر مدير الأمن العالم اللبناني اللواء ‘إبراهيم’، واقترحت المساهمة بحصة معتبرة في إعادة إعمار سورية، ودخلت على خط التقارب البراغماتي مع حزب الله.. كل هذا، وعينها على مشروع تمرير أنبوب الغاز القطري إلى أوروبا عبر الأراضي السورية والتركية، وفي نفس الوقت، تطمح إلى إستعادة دورها الحيوي في المنطقة من البوابة الإقتصادية، على حساب السعودية التي ما زالت تراهن على الإديولوجيا الرجعية في نسج تحالف يساعدها في حربها الخاسرة ضد إيران والعراق وسورية وحزب الله واليمن، حتى لو أدى الأمر لعرقلة السياسات الأمريكية في المنطقة.

ومن الإخفاقات في السياسة الأمريكية كذلك، ما أصبح عليه الوضع المتفجر اليوم في أفغانستان، حيث لم تنجح إدارة ‘أوباما’ في التوصل إلى بروتوكول سلام بين الرئيس ‘حامد كرزاي’ و ‘طالبان’، ما يبشر بانفجارات حتمية حال إنسحاب الجيش الأمريكي من هذا البلد أواخر عام 2014 كما هو متوقع، مما يستوجب التعاون مع إيران لضمان إنسحاب آمن من هذا البلد. الأمر يتعلق بسحب ملايين الأطنان من التجهيزات و المعدات العسكرية، كما حدث في حالة العراق وانقلبت أمريكا بعد ذلك على طهران رغم تعاونها في تغطية الإنسحاب الأمريكي. من هنا يفهم قول الإمام ‘خامنئي’: أن “أمريكا لا عهد لها ولا أمان”.. لكن هذا لا يمنع من اتخاذ مبادرة ديبلوماسية “ثورية” أو “شجاعة” كما سماها قائد الثورة، تتسم بـ”الحكمة” التي تعني العقلانية مع الحيطة والحذر وسياسة الخطوة مقابل الخطوة، وفق ثوابت الدبلوماسية الإيرانية.

هذا التحول الجديد في الخيارات والسياسات التي تعرفها المنطقة اليوم، يقودنا لإستخلاص درس غاية في الأهمية بالنسبة للدول العربية عموما والسعودية على وجه الخصوص، ومفاده، أن العالم في عصر العولمة، لا يوجد مكان فيه للغة الإديولوجية، بل فقط للغة المصالح، وأن من يحاول بناء تحالف إقليمي على أساس قومي أو إديولوجي، سيجد نفسه مقصيا من معادلة السلطة والثروة معا، في عالم معولم، تشابكت فيه المصالح وتداخلت السياسات، لدرجة لم تعد معها الخطابات الأصولية والشعائر التقدمية تشكل مشروعا حضاريا يفضي إلى الحداثة بقدر ما يولد مآزق هوياتية تغذي الصراع وتأدي إلى الصدام كما هو واقع الحال اليوم بالمنطقة بين السعودية ومحور المقاومة، وكما كان عليه الحال من قبل بين الليبرالية المتوحشة والشيوعية المتطرفة خلال سنوات الحرب الباردة، وكما كان عليه الحال كذلك في أوروبا، إبّان عصر القوميات المتناحرة والحروب الأهلية الطاحنة قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي أفضت إلى تصالح تُوّج بمشروع الإتحاد الإقتصادي الأوروبي الذي أزال الحدود، وأذاب النزعات القومية العنصرية، وساهم في خلق مجتمع الرفاهية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

أما بالنسبة لأمريكا، فما كانت مثل هذه المراجعة في الإستراتيجية لتتم، لولا حصول قناعة داخل صناع القرار في الإدارة الأمريكية أن عصر الهيمنة الأحادية ودور شرطي العالم قد إنتهى، وأن على أمريكا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وضعها السياسي والإقتصادي المتأزم من خلال الشراكة مع الروسي والتركيز على المصالح بدل الإديولوجيا. وهو ما أكده ‘بريجنسكي’ الأسبوع المنصرم بإعلانه: أن “حقبة هيمنة أمريكا على العالم قد انتهت”.

العنـــوان الإيرانـــي..

إيران، وبخلاف النظام السعودي الذي لا يستطيع العيش والإستمرار من دون حماية أمريكية، لا تحتاج إلى واشنطن، خصوصا بعد أن نجحت رغم أزيد من 3 عقود من الحصار الخانق في تطوير قدراتها العسكرية بمظومات دفاعية وهجومية متطورة برية وبحرية وجوية وصاروخية هائلة، وبسط نفوذها في المنطقة من خلال حلف الممانعة والمقاومة، فتحولت إلى قوة إقليمية يستحيل على الإدارة الأمريكية إزاحتها من معادلة القوة والسلطة والثروة أو حتى تجاهلها.

ويجب التذكير هنا، أن خيار المقاومة، هو وسيلة أملتها ظروف الإحتلال الصهيوني لفلسطين والهيمنة الإمبريالية على مقدرات الشعوب المستضعفة، وليست غاية في حد ذتها، ما يجعل البعد الإقتصادي في الرؤية الإستراتيجية الإيرانية، هو المحور المركزي في تحالفاتها الإقليمية والدولية، بدليل أن إيران لم تسعى لفرض المذهب “الشيعي” في سورية ولبنان خلال أزيد من 3 عقود من عمر الثورة، ولا في أية دولة عربية كما فعلت السعودية بالنسبة للعقيدة الوهابية التي ألغت المذاهب كلها وحلت محلها، بل أخطر من ذلك، لقد إختزلت الدين الإسلامي كله في المنظومة الفكرية لنبيها محمد بن عبد الوهاب، بدليل أن الإمام الغزالي رحمه الله عندما سُأل عن الوهابية، قال: “وكأني بهؤلاء البدو يقدّمون لنا دينا غير دين الإسلام الذي نعرفه”.

وعندما فشلت السعودية في رهانها على الإرهاب لإسقاط سورية تمهيدا لضرب حزب الله وإيران خدمة لإسرائيل، وتوجست خيفة من تبدل السياسة الأمريكية في المنطقة، دخلت في تحالف معلن مع الكيان الصهيوني لإرباك واشنطن والإستمرار في مواجهة إيران من خلال إستراتيجية الحقد والعناد، بلا رؤية موضوعية ولا أفق واعد. والأخطر من هذا وذاك، أن هذا التحالف الهجين، وصل حد إنكشاف الأمن القومي السعودي بالكامل لإسرائيل، وفق ما نقلته الصحافة عن الزيارة السرية التي قام بها الأمير بندر بن سلطان نهاية الأسبوع المنصرم لتل أبيب، حيث حمل معه للمخابرات الصهيونية ملفات سرّية وحسّاسة تتعلق بالأمن القومي السعودي والخليجي.

وبرغم ترديد الإعلام السعودي لمقولة مفادها أن إيران إنصاعت للتهديد الأمريكي بسبب وضعها الإقتصادي المأزوم نتيجة العقوبات الجائرة التي طبقت عليها في الماضي، إلا أن مثل هذا التبرير هو تعبير فاضح عن هزيمة المشروع السعودي الذي يحاول تقديم إيران بصورة المنهزم. ومعلوم أن الإنتصار لا يظهر من خلال تصرف المنتصر، بل من خلال تصرف المهزوم الذي يؤكد إنتصار الطرف الآخر من خلال تصرفه المتحامل والمتخاذل الذي يحاول من خلاله ستر عورته، فيفضحه غضبه المعلن، وهذا هو حال النظام السعودي اليوم.

لقد تبين من خلال التقارب الأمريكي الإيراني أن واشنطن هي من تحتاج لإيران لا العكس، وهذا ما يفسر هرولة إدارة الرئيس ‘أوباما’ لخطب ودها وفتح عهد جديد من الشراكة والتعاون معها، بعد أن اكتشف ‘جيفري فيلتمان’ فجأة، أن هناك سوء فهم كبير من قبل الإدارة الأمريكية تجاه إيران.

أما الذين يعتقدون أن هدف الإدارة الأمريكية هو “النووي الإيراني” فيخطأون، لأن آخر هم أمريكا هو النووي الإيراني كما كان الحال مع النووي الباكستاني. وإذا كان النووي الإيراني قد تصدر مانشيتات الإعلام، فلأنه حاجة أمنية إسرائيلية صرفة، ذلك أن إيران تمثل تهديدا وجوديا لإسرائيل وللمصالح الأمريكية في المنطقة من دون نووي.. وهذا هو سر سعي إدارة أوباما للتحالف معها، لإحتواء خطرها من جهة، والتعاون معها في منطقة الشرق الأوسط وأوراسيا مقابل الإعتراف بدورها كقوة إقليمية عظمى، مع مراعات مصالحها وأمنها القومي.

بدليل، أن لا شيىء تغير في العقيدة الإيرانية بشأن النووي، فلا زالت لاءاتها الثلاثة مرفوعة إلى اليوم (لا تنازل عن الحق في استخدام النووي لأغراض سلمية، لا تنازل عن الحق في التخصيب داخل إيران، ولا قبول بنقل مخزون اليورانيوم المخصب خارج البلاد). وهي خطوط حمر تدخل ضمن حقها الطبيعي الذي يكفله القانون الدولي، والأمر الوحيد القابل للنقاش هو تخفيض مستوى التخصيب من 20% إلى 5%، في حين يطالب الغرب بأن يكون في حدود 3,5 %، وترفض إيران التفتيش المفاجىء لمنشآتها النووية من دون إخطار مسبق. وقد وافقت مجموعة (5 + 1) على الشروط الإيرانية بأوامر أمريكية، وأصدرت الوكالة الدولية للطاقة النووية شهادة حسن سيرة وسلوك في حق برنامج إيران النووي، وعبرت أوروبا وأمريكا عن التقدم الإيجابي في المفاوضات مع طهران. ما يؤكد أن ما يتفاوض بشأنه في الكواليس السرية ليس النووي، بل إعادة تقسيم النفوذ وترتيب أوضاع المنطقة، وأن ‘النووي’ في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون عنوانا لذر الرماد في العيون حتى لا تفسد الطبخة السرية.

وهذا بالضبط هو ما أشار إليه سماحة السيد في كلمته الإثنين، حين قال للسعودية وفريق 14 الشهر اللبناني: أن “المرحلة القادمة ليست في مصلحتكم”. ومعلوم أن سماحته لا يتكلم بناء على تحليلات، بل من منطلق معلومات موثوقة ومؤكدة يعرف تفاصيلها بحكم قربه من دوائر القرار العليا في إيران وسورية.

ووفق ما سربه الإعلام الأمريكي، فإن الخريطة الجديدة بمنطقة الشرق الأوسط، تجعل من ما أسماه الملك الأردني ‘عبد الله الثاني’ بـ “الهلال الشيعي”، منطقة نفوذ إيرانية بشراكة روسية، وتشمل إيران، العراق، سورية، لبنان واليمن، مع تعهد روسيا بحماية الأقليات المسيحية في المنطقة، وحماية الأقليات السنية والكردية والدرزية في العراق وسورية ولبنان واليمن.

ومقابل هذا المحور، ستعمل أمريكا على خلق محور جديد لحفظ التوازن في المنطقة، يشمل تركيا والخليج ومصر، قبل الإنتقال لتنظيم منطقة شمال إفريقيا. ولا حديث عن موضوع المسيحيين في مصر حتى الآن، ويجهل ما تحضر له الإدارة الأمريكية بالنسبة لهذا البلد، وإن كانت عديد التقارير الإستخباراتية تروج لإنفجار حتمي قد يعيد خلط الأوراق في أرض الكنانة لمنع العسكر من السيطرة على الحكم. كما أن هناك اتفاق على ضمان حقوق الأقلية الشيعية في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط بالقطيف، وإقرار ديمقراطية برلمانية تشاركية في البحرين، لوضع حد لعقود من التهميش الذي عانت منه الطائفة الشيعية.

وهذا هو جوهر الخلاف القائم اليوم بين السعودية وأمريكا، والذي يحاول الجناح المتشدد بالمملكة مواجهته من خلال التخريب في سورية والعراق ولبنان ومصر وليبيا وتونس، لعرقلة أي أفق لحل سياسي يخدم الإستراتيجية الأمريكية الجديدة. وبرغم الغضب السعودي من الإنقلاب الأمريكي، والذي وصل حد السعار، رفضت إدارة أوباما بعث مسؤول ولو من الدرجة الثالثة إلى الرياض لطمئنتها حول دورها ومستقبلها في المنطقة. بل أكثر من ذلك، عندما اجتمع وزير الخارجية ‘سعود الفيصل’ بالرئيس أوباما على هامش قمة منظمة الأمم المتحدة بنيويورك قبل أيام، وطالبه بتقديم إلتزام أمريكي خطي تتعهد بموجبه الإدارة الأمريكية بحماية النظام في السعودية، رفض الرئيس ‘أوباما’ الطلب السعودي، وقال أن أمريكا لا تحتاج إلى إلتزامات خطية لحماية حلفائها. الأمر الذي فهمته السعودية على أنه نوع من التخلي عن رجالات النظام القديم.

وبالفعل، لم تكن القراءة السعودية مجانبة للصواب هذه المرة، وهذا شق مهم في الخريطة الجديدة، لأنه يأخد بالإعتبار شرطا إيرانية غير قابل للتفاوض، ومفاده، ضرورة وضع حد لسياسة البداوة في المملكة، من خلال عزل الأمير ‘بندر بن سلطان’ و ‘الأمير سعود الفيصل’، وإقصاء ‘تركي الفيصل’ من أي منصب مستقبلي محتمل، وتعويض الطبقة الرجعية الحاكمة في السعودية بمن تسميهم إيران بـ”الحمائم” المثقفين والمنفتحين من أحفاد الملك عبد الله بن عبد العزيز، ليتسنى لها الدخول في تعاون مثمر وبناء مع المملكة، يكون عنوانه الأبرز، القضاء على الإرهاب ومحاربة الفكر التكفيري الدموي كأولوية إستراتيجية مستقبلية أمريكية روسية إيرانية وسعودية.

العنــوان الســـوري..

هذا الشرط الإيراني، يحملنا إلى العنوان السوري من الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، والذي يمكن تلخيصه في مقاربتين: الأولى، عقد مؤتمر جنيف في موعده بمن حضر، وترك مسألة إختيار القيادة السورية للقرار الشعبي الديمقراطي بإشراف الأمم المتحدة، ومن المستبعد مناقشة مسألة “الحكومة الإنتقالية” في هذه المرحلة، لإفساح المجال أمام تنفيذ الإتفاق الكيميائئ. الثانية: إتخاذ قرار بإجماع دولي لمحاربة الإرهاب في سورية والمنطقة، بعد أن تم عزل المتطرفين في الشمال السوري ليسهل تطويقهم وسحقهم، مع منع السعودية من مواصلة دعم الإرهابيين، ومن ثم الإنتقال إلى معاقل أخرى كاليمن. لأن الأولوية الأولى بالنسبة للعالم اليوم هي الحرب على الإرهاب التي أدرجت تحت العنوان السوري في الإستراتيجية الأمريكية الجديدة.

إمــدادات النفـــط..

أما بالنسبة لإمدادات النفط، فتعتبر أمريكا أن مضيق ‘هرمز’ يكتسي أهمية إستراتيجية كبرى بالنسبة لمصالحا، لإرتباط تجارة النفط بدعم الدولار الذي يشكل اليوم عصب الإقتصاد الرأسمالي الأمريكي والعالمي. كما أن تعهّد إيران بحماية مرور ما يناهز 40% من إحتياجات النفط العالمي من مضيق ‘هرمز’، يعد ضمانة لتأمين مصالح أمريكا والغرب بل والعالم كافة.

وفيما له علاقة بالإنتاج، لم تعد السعودية تمثل أولوية في الإستراتيجية النفطية الأمريكية، بعد سقوط معادلة “الأمن مقابل النفط” في الخليج، بسبب إكتشاف تقنية إستخراج النفط والغاز من الصخور النفطية، ما يُأهّل أمريكا لأن تصبح أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم بعد سنوات قليلة، الأمر الذي يفقد السعودية مكانتها الإستراتيجية القديمة، خصوصا مع بداية تدفق نفط وغاز إيران والعراق ولبنان وسوريا (وربما قطر كذلك عبر سورية) نحو تركيا فأوروبا في المرحلة المقبلة، فيما تعتبر “إسرائيل” الخاسر الأكبر الذي سيظل خارج معادلة “حرب الأنابيب”. أما روسيا فستكون الرابح الأكبر في الشرق الأوسط وأوروبا معا.

العنــوان الفلسطيــني الإسرائيــلي..

تعرف الإدارة الأمريكية أن التوصل إلى إتفاقية سلام بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل أمر مستحيل في المدى المنظور، نظرا لتعنت إسرائيل ورفضها إعادة الحقوق المغتصبة للشعب الفلسطيني، وإصراراها على يهودية الدولة، وبناء المستوطنات، ورفضها التفاوض حول القدس وعودة اللاجئين، من جهة. وتعلم الإدارة الأمريكية علم اليقين أن قضية فلسطين قضية شعب لا سلطة، وقضية صراع عربي إسرائيلي وحقوق إسلامية مقدسة، من جهة أخرى. وبالتالي، فالمفاوضات العبثية التي تجري اليوم لن توصل إلى نتيجة تذكر، باستثناء تمرير الوقت للحصول على مزيد من التنازلات، وترحيل الحل النهائي إلى أجل غير مسمى، ما دام من المستحيل تصفية القضية عبر حلول ترقيعية يوافق عليها سماسرة القضية كمحمود عباس وعصابته، الذي إغتنوا بالمال الحرام وفرطوا في الحقوق الفلسطينية وثوابت الأمة، وحلولوا الإحتلال إلى نعمة بالنسبة للإسرائيلي، وكبحوا جماح الشعب الفلسطيني في أن يفجر ثورته لتحرير أرضه ورسم معالم مستقبله ومصير أبنائه.

زرع إسرائيل كغذة سرطانية في المنطقة من قبل الغرب، لم يكن الهدف منه جلب السلام، بقدر ما كان الأمر يتعلق بمواجهة الإتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة التي ساهم فيها الكيان الصهيوني بشكل كبير، بحيث إعتبرت إسرائيل حينها قاعدة عسكرية متقدمة في الشرق الأوسط، وقلعة للإمبريالية الغربية، وحاملة طائرات أمريكية متقدمة، وغير ذلك من التعريفات الحربية. وطبعا من ضمن الأدوار التي كانت منوطة بالكيان الصهيوني، منع أية محاولة للتقارب والوحدة بين الدول العربية الحليفة للإتحاد السوفياتي سابقا، وخصوصا مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وسورية في عهد الرئيس حافظ الأسد، والعراق في عهد صدام حسين، وإيران بعد الشاه. وهي الدول التي تم التخطيط لتدميرها وتفتيت جيوشها في أفق تقسيمها، بالتعاون الوثيق مع مملكة الشر الوهابية.

ومعلوم أيضا، أن الصهيونية حركة قومية علمانية وعنصرية لا علاقة لها بالديانة اليهودية، سرقت الهوية اليهودية واستغلتها عقائديا من خلال الترويج لمجموعة أساطير جعلت نصف يهود العالم، وخاصة الفقراء، يهاجرون إليها إعتقادا منهم أنهم ذاهبون إلى أرض الميعاد حيث المن والسلوى، ليتحولوا إلى عسكر ووقود لنار الحروب التي يشعلها تحالف اليهود الصهاينة الأغنياء والمسيحيين الصهاينة الأغبياء في أمريكا وأوروبا، أو ما كان يعرف بالمعسكر الإمبريالي الغربي.

وإسرائيل العنصرية التي تطالب الفلسطينيين والعرب اليوم الإعتراف بيهودية الدولة، تعرف قبل غيرها أنها تتاجر بالدين في سوق السياسة، لأن دولة إسرائيل نفسها هي مناقضة للتعاليم التوراتية التي تحرم على اليهود إقامة دولة خاصة بهم. كما أن هذه السياسات الإنتهازية جلبت على الكيان الصهيوني حقد العالم وإحتقاره، ما انعكس كراهية ضد اليهود أنفسهم.

وهذا بالضبط ما يحصل لكل من يحاول تدنيس التعاليم الدينية في مستنقع السياسة النجس، وهو ما لاحظناها مع “الوهابية” السعودية وربيبتها السلفية “الإخوانية” الأصولية كذلك، إذ بفضل جهودهما لتخريب الدين، أصبح الإسلام اليوم دين قتل وإرهاب وخراب، ما دفع بالعديد من مواطني العالم إلى تكوين فكرة سلبية عن الديانة الإسلامية السمحة.

وعودة لعنوان وهم السلام في فلسطين الذي تعمل عليه الإستراتيجية الأمريكية القديمة الجديدة، فإن نقطة الخلاف الكبير بين إيران ومحور الممانعة والمقاومة من جهة، وأمريكا والغرب وإسرائيل من جهة ثانية. وجوهر الإشكال ولب الصراع، يكمن في المال اليهودي واللوبي الصهيوني الذي يسيطر على الإدارة الأمريكية ويمنعها من إتخاذ أي موقف مساند للحق العربي.

وقد كان لافتا تصريح وزير الخارجية البريطاني الأسبق ‘جاك سترو’ الذي شغل منصب وزير خارجية بريطانيا في حكومة طوني بلير في الأعوام 2001 – 2006، والذي قال: “إن العائق الأساسي لإحلال السلام في الشرق الأوسط هو المال اليهودي في الولايات المتحدة والذي يسيطر على الإدارة في البيت الأبيض والكونغرس ويشوه رغبة الجمهور الأميركي”، مضيفا: أنه “بالإضافة إلى أموال اليهود فإن ألمانيا تعرقل عملية السلام لدفاعها المهووس عن إسرائيل”، في إشارة لعقدة الذنب المزعومة التي خلفها “الهولوكوست” زمن الديكتاتور ‘هيتلر’. وقد جاء هذا التصريح الكاشف، خلال المنتدى الدبلوماسي العالمي حسبما ذكرت صحيفة “يديعوت إحرنوت” الإسرائيلية بتاريخ 29-10-2013.

وتنسجم تصريحات ‘سترو’ مع ما تؤكده مراكز الأبحاث والدراسات الغربية حول النفوذ الواسع لرأس المال الصهيوني وجماعات الضغط الموالية لإسرائيل، التي تحظى بنفوذ لدى أعضاء البرلمانات ومجالس التمثيل، وتمارس دورا بارزا في اختيار القيادات السياسية الغربية ورسم توجهاتها وسياساتها، وفق ما أكده العديد من المراقبين الموضوعيين، و وفق ما أصبح معلوما للجميع اليوم.

بل الأخطر من ذلك، أن المال الصهيوني ساهم في صناعة القادة العرب كذلك، ويؤثر في سياساتهم الداخلية والخارجية، ولعل ما أصبح يعرف اليوم عن أصول الحكام في السعودية وقطر والبحرين وتركيا والأردن والمغرب، ومصر التي تشير معطيات مستقات من دعوى قضائية رفعها أمام محكمة القضاء الإداري المصرية الباحث بالمركز القومي ‘حامد صديق’ ضد الفريق أول ‘عبد الفتاح السيسي’، يتهمه فيها بأنه ينحدر من أم مغربية يهودية، هاجرت إلى مصر وحصلت على الجنسية، وفق ما أفادت صحيفة ‘الوفد’ المصرية قبل أسابيع. ومعلوم أنه في العقيدة اليهودية، فقط من ينحدر من أم يهودية يعتبر يهوديا قحّا، أما إذا كان والده يهوديا وأمه غير ذلك، فلا يعترف به ضمن تشكيلة شعب الله المختار.

خلاصــــة..

يستفاد من الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، أن أمريكا قررت التخلي عن حلفاءها التقليديين الذين فشلوا في إظهار استجابة مناسبة للمتغيّرات التي تعصف بالمنطقة وشعوبها. كما قررت تغيير نظرتها السابقة، والتي كانت تقوم على أساس أن الشرق الأوسط منطقة منقسمة بين معتدلين ومتطرفين، لأن واقع الحال اليوم فرض متغيّرات جديدة ومعطيات مختلفة تماما، حيث إكتشف العالم من الأحداث السورية، أن من كان يصنف زعيما لدول الإعتدال، هو عراب الإرهاب الدولي والداعم الأبرز له، ونقصد بذلك مملكة الشر الوهابية، في حين أن من كانوا يصنفون في خانة التطرف كإيران وسورية وحزب الله هم من يحاربون الإرهاب والفكر التكفيري الإجرامي التخريبي.

وبالمحصلة يمكن القول، أن أمريكا تخلت عن عقيدتها التي تقوم على أساس “من ليس معنا فهو ضدنا”، وتتّجه اليوم للعب دور ‘المايسترو’ المنسّق بين القوى المختلفة في الشرق الأوسط، حتى لو اختلفت التوجهات والأدوات وطرق الأداءات المحليّة، لمنع أي صدام في ما بينها، وجعلها جميعا تتصرف في إطار ما يناسب المصالح الأميركية والروسية وتشابكاتها العالميّة، بصرف النظر عن ميول هذه القوى، شريطة أن تثبت قدرتها من خلال الآليات الديمقراطية على تمثيل شعوبها والتحرّك بفعاليّة سياسيّاً واستراتيجياً، دون تصادم مع أحد ودون تجاوز للخطوط الحمراء المتفق عليها بين الروسي والأمريكي، وهو ما يفرض الحاجة إلى إجراء تغيير ديمقراطي في النظام السعودي والبحريني في المدى المنظور.

تنزيل هذه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، لا يعني أن الصراعات المحلية ستختفي من المنطقة في وقت قريب، بل يعني أن الشرق الأوسط لم يعد يشكل نفس الأولوية الإستراتيجية التي كانت له سابقا في السياسة الأمريكية، وأنه يعتبر اليوم مجرد “حديقة خلفية” للقوى الكبرى (أمريكا، أوروبا، روسيا، الصين)، وأن لا حلفاء لأمريكا بعد اليوم في هذه المنطقة، بل فقط مصالح مشتركة وضعت لها خطوطا حمراء يجب عدم تجاوزها من قبل كائن من كان، حتى لا تتعرض هذه المصالح للتهديد.

أما ما عدا ذلك، فيمكن القبول بشرق أوسط يتخبّط في مشاكله المحليّة المعقدة لفترة انتقالية مقبلة، مع القبول بمسحة إسلامية عامة فيه، وحفظ الأمن الإسرائيلي، والتسليم بنفوذ إيران غير مُسلّحة نوويّاً في المنطقة.

وبالنسبة لإيران وحلف المقاومة، يعتبر كل تقارب مع إسرائيل من المحرمات، ولا سلام مع الكيان الصهيوني المغتصب إلا بما يخدم مصالح الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، ما يعني استمرار الصراع من خلال محطات تصادم ظرفية متحكم بها، مع تأجيل الإنفجار الكبير إلى حين تتغيّر الظروف الدولية، والشروط الإقليمية، وتنضج الإمكانات والمقدّرات المحليّة.

أحمد الشرقاوي -بانوراما الشرق الاوسط

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.