السلفية القتالية بين الانشطار والبداوة
موقع شاهد نيوز الإخباري ـ
هادي قبيسي:
تعيش السلفية القتالية حالة تشبه الأرخبيل الذي يتكون من أعداد كبيرة من الجزر الصغيرة، لكن هذه الجزر بقيت في حالة حراك تكتوني دائم ومتنامٍ، تنضم إحداها إلى الأخرى، أو تصطدم جزيرة بأخرى فتُفتت كيانها، أو تتجزأ جزيرة إلى عدة جزر، وكذلك قد تقضم إحداها جزءاً من الأخرى.
ثمة أزمة فكرية وتاريخية تمنع نشوء هوية جامعة، حتى على مستوى الشكل، أو المرجعية الرمزية القيادية، وفي فترة الانفجار والمخاض القائمة حالياً يرجح أن يستمر الحال على ما هو عليه، لكن المرجح أيضاً أن هذه الحالة الانشطارية ستبقي الصراع قائماً، إن لم يكن بين السلفية القتالية وخصومها، فداخل إطارها نفسه.
على مستوى البنى الكلية هنا حالة حراك وتشظٍّ مستمر مشابه للانشطار النووي، وعلى مستوى البنية التحتية للتنظيمات السلفية القتالية ثمة حالة تماثل وضع البدو الرحل، الذين يألفون الانتقال من تنظيم إلى تنظيم ومن منطقة إلى أخرى ومن اتجاه فقهي إلى آخر.
ربما لا علاقة لذلك بالتراث العربي البدائي، ولكن مجموعة عوامل تدفع نحو اللااستقرار وعدم وجود روابط حقيقية ضمن هذه التنظيمات.
العامل الأول هو الظرف السياسي والاجتماعي الذي نشأت خلاله، ففي سوريا خصوصاً تم توضيب هذه البنى التنظيمية لأغراض الانخراط في الحرب الغربية على النظام، وتشكلت وسط الميدان، دون أن تحصل على رابط محوري يرسي نظاماً فيها وبينها أو استقراراً بنيوياً داخلياً. الثورات تتعرض لحالة الانشقاق والتعددية، لكننا أمام حالة تشظي وتشرذم، أنتجت المزاج البدوي. بحيث لم يكن الانتماء مبنياً على مسار مسبق وإنما حصل الاستقطاب بحسب الظرف واللحظة.
العامل الثاني هو تشابه نسبي بين الجزر السلفية القتالية على المستوى الفكري، فالانتقال من تنظيم إلى آخر لا يعني تغييراً على المستوى الفكري للهوية، بل انتقالاً إلى تنوع داخل الطيف السلفي القتالي.
العامل الثالث المؤثر في حالة الترحال وجود فئة من السلفيين القتاليين الذين يعتقدون أنهم يجاهدون فعلاً في سبيل الله ودين الرسول محمد صلى الله عليه وآله، ولذلك لا يهتمون كثيراً بالانتماء التنظيمي أو الجغرافيا، فالحراك هنا ذو بعد نفسي فرداني غير متعلق بشكل عميق بالجماعة.
العامل الرابع الذي يلعب دوراً في هذا المجال هو تعدد الجنسيات المنضوية في هذه التنظيمات ففيها العرب من الدول المختلفة وفيها غير العرب كذلك، ما يخلق جماعات وشِللاً داخل كل تنظيم سلفي قتالي، وقد حاولت داعش حل المشكلة هذه من خلال احتفالية احراق جوازات السفر، لكنها اصطدمت بمشكلة اللغة، ولم تتمكن من تشكيل لحمة نهائية داخلياً.
العامل الخامس الفوضى الفقهية والفكرية، فلا ضوابط جدية وحقيقية على ابتداع وانتاج الفتاوى في كل اتجاه. عندما تجد جبهة النصرة مسوغاً شرعياً لتحالف عضوي مع الكيان الصهيوني، يحق لنا الكلام عن اباحية فكرية لا فوضى فقط. فقدان الانضباط الفكري يفتح هامشاً واسعاً لنقض المفعول الجمعي للقيادات، بحيث تفقد مشروعيتها حين تقرر مجموعة ما داخل التنظيم انتاج فتوى جديدة لسبب أو لآخر، ولم تَحُلْ الهيئات الشرعية في التنظيمات دون تفريخ المشايخ والفتاوى من كل حدب وصوب.
العامل السادس الذي تجدر الإشارة إليه ههنا هو الاختلاط في الانتماءات التنظيمية والفكرية، فنجد مجموعات أو شِللاً في تنظيم يحمل شعاراً إسلامياً ولكنها غير متدينة، والعكس صحيح، فوجود أفراد يحملون انتماءً دينياً في تنظيمات علمانية حالة منتشرة أيضاً. عليه فإن الترحال من هنا إلى هناك له مبرراته كذلك.
ينتج عن هذا الحراك صراعات نفوذ وهويات وجغرافيا لا تنتهي، فهي تعمل بمحرك ذاتي نابع من البنية السلفية القتالية نفسها، ونمط تفكيرها وتخلفها العقلي والروحي.
النموذج الانشطاري والبدائي الذي تقدمه هذه التنظيمات يشكل عامل تقسيم وتدمير حالياً، نتيجة عدم سكوت المدافع في مناطق سيطرة المعارضة، وتجزئتها إلى مناطق نفوذ ونزاع مستمر، ويشكل خطراً على مستقبل الأمة، ففي كل مكان ينتشر فيه هذا النموذج المنحرف يحل معه الخراب والدمار، ولا حال سوى بإعادة النظر في الفكر المادي السطحي والغرائزي الذي تستند إليه.