السعودية تخرق السيادة اللبنانية بالتحقيق مع مواطنيها الارهابيين
كلّما اعتقلت الأجهزة الأمنية اللبنانية مواطناً سعودياً بتهمة الارهاب سواء أكان بمفرده، أو ضمن شبكة تكفيرية، سارعت السعودية إلى إرسال وفد أمني منها إلى بيروت، ليس للوقوف على مجريات التحقيقات معه أو معهم بحسب أعدادهم التي تتجاوز الاثنين والثلاثة في بعض الأحيان، تحت إشراف القضاء المختص، وهو الأرجح النيابة العامة التمييزية ثمّ النيابة العامة العسكرية، وإنّما للمشاركة الفعلية في مضمون هذه التحقيقات، وذلك في تخلّ واضح عن السيادة اللبنانية في الاستفراد في التحقيق مع من ارتكب جرماً على أراضيها، وهدّد أمنها، وقتل مواطنيها، أو كان في صدد قتلهم.
فالتحقيقات تجري على الأرض اللبنانية مع السعوديين المقترفين للجرائم، ولا يحقّ لوفد أمني سعودي مكوّن من رجال في الاستخبارات، حضور جلسات التحقيق مع مواطنيهم لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية، وهو أمر لا يحصل مع مواطني دول عربية وأجنبية أخرى، ولم تسجّل سابقة في هذا المضمار في أيّ ملفّ كان.
كلّ هذا يحصل ولا وجود لاتفاق أمني موقّع بشكل رسمي بين البلدين، أيّ بين لبنان والسعودية، فعلى أيّ أساس قانوني يستند التدخّل السعودي في التحقيقات اللبنانية؟ وهل تبغي السعودية من هذه الطريقة، الالتفاف على التحقيق وإظهار نفسها بمظهر الحريص على أمن لبنان والدولة المكافحة للإرهاب؟. إذا كان الأمر على هذا المنوال، فلماذا لا تقوم بضبط تغلغل مواطنيها في صفوف تنظيم “القاعدة” ومتفرّعاته والحدّ منه وبالتالي كفّ مصائبهم عن لبنان وغيره من البلدان؟، ولماذا الانتشار السعودي يفوق غيره من الجنسيات العربية والآسيوية والإفريقية والأوروبية، في هذه التنظيمات والمجموعات، وأكثر من ذلك يستلم السعوديون مناصب رفيعة فيها ويعملون على تأمين التمويل المادي لها وبعملات مختلفة؟.
وقد يحدث أن تطلب دولة ما، حضور جلسة تحقيق مع أحد مواطنيها، فيلّبي النائب العام التمييزي طلبها بأن يكون التحقيق لدى قاضي التحقيق الممسك أساساً وبحسب صلاحياته، بالملفّ، أيّ في مرحلة التحقيق الاستنطاقي، وليس التحقيق الأوّلي الذي يعوّل عليه كثيراً في تحديد مسار التحقيق في القضيّة، وهذا الأمر حصل في قضايا فردية وجرائم لا تتعلّق بالإرهاب بتاتاً.
وقد تطلب دولة ما عبر سفارتها الموجودة في لبنان، وعبر القنوات الرسمية، لقاء القاضي المولج بالتحقيق لمعرفة المعلومات والنتيجة التي توصل إليها، وهذا ما حدث مثلاً مع المواطن اللبناني م.ح. الذي نقل طرداً من المتفجّرات المصنوعة محلّياً وبطريقة بدائية جدّاً على يديه، إلى السفارة الأميركية في عوكر، فاكتشف أمرها ولم تنفجر، ولمّا كان قاضي التحقيق العسكري الأوّل يحقّق في هذا الموضوع، استقبل وفداً من السفارة الأميركية وأطلعه على مسار التحقيق.
ويتولّى عادة، النائب العام التمييزي استقبال الوفود الأمنية العربية والغربية، أو وفود السفارات، الآتية إليه للاستفسار عن التحقيق في ملفّ ما، وفي حالات معدودة تزور هذه الوفود قضاة التحقيق المكلّفين بالتحقيق بعد استئذان السلطات القضائية العليا أيّ النائب العام التمييزي، على الرغم من عدم وجود أيّ سلطة للنائب العام على قاضي التحقيق إلاّ من باب الحفاظ على “مصلحة الدولة العليا”.
غير أنّ القاعدة المعمول بها قضائياً، سرعان ما تمّ كسرها للمرّة الأولى في عهد حكومة فؤاد السنيورة الأولى التي استلمت الحكم في صيف العام 2005، على وقع جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فصار مُحللّاً للأمن السعودي المشاركة في التحقيق الأوّلي مع موقوفين سعوديين لهم باع طويل في الانخراط في الأعمال الإرهابية، والانتماء إلى تنظيم “القاعدة” مباشرة، أو إلى أحد تشكيلاته التكفيرية، ممّا يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول هذ التساهل الواقع في غير محلّه القانوني السليم، خصوصاً وأنّ المعاملة بالمثل لا تتمّ على الإطلاق، فلم يقيّض للأجهزة الأمنية اللبنانية أن شاركت في التحقيق مع مواطن لبناني موقوف لدى هذه الدولة أو تلك، عربية كانت، أو أجنبية وتحديداً السعودية.
وليس خافياً على أحد، أنّ القضاء رضخ لأوامر الحكومة الحاسمة في السماح للأمن السعودي الاشتراك في التحقيق اللبناني، مع ما يترتّب على هذه المشاركة من تدخّل في مضمون التحقيق، وطرح الأسئلة، وأخذ معلومات من الموقوف، بينما حضور جلسة التحقيق لدى قاضي التحقيق خلال القيام بالتحقيق الاستنطاقي لا يتعدّى الحضور الجسدي، من دون السماح على الاطلاق، بطرح أيّ سؤال، أو التدخّل في توجيهه نحو طريق ما، أو اتجاه ما، أو التدخّل في عمل القاضي اللبناني وطريقة إعداده لأسئلته التي تتوخّى الوصول إلى الحقيقة وتكوين الأدلّة والقرائن بحقّ الموقوف.
وهذا ما حصل بالفعل مع كلّ المواطنين السعوديين الذين اعتقلوا في لبنان خلال تحضيرهم لعملهم الجرمي، أو استعدادهم لتنفيذه، أو قيامهم به، مثل محمّد صالح السويد الذي كان منضوياً في شبكة مرتبطة بـ” القاعدة” و”عصبة الأنصار”، وفيصل أكبر الذي كان عضواً في “مجموعة الـ 13” المنتمية إلى تنظيم “القاعدة” والمتورّطة باغتيال رفيق الحريري قبل أن يجبر هو شخصياً، على تغيير إفادته الأوّلية على يد الضابطين وسام الحسن وسمير شحادة على ما بات متداولاً في الصالونات السياسية، والسعودي عبدالله بيشي المنتمي إلى “القاعدة” والمكلّف بالتوجيه الديني لتنظيم “فتح الإسلام” والوقوف على تطلّعاته وطموحات “أميره” شاكر العبسي، والسعودي فهد عبد العزيز المغامس الذي أنشأ مجموعة برّ الياس لاستهداف مدينة زحلة بعدد من الصواريخ بغية إحداث فتنة سنّية شيعية وضرب المسيحيين.
ولم يخجل السفير السعودي في بيروت، في التصريح علناً من أنّ ممثّلاً للسفارة حضر التحقيقات مع هذا الموقوف، أو ذاك، كما حصل مع المغامس والسويد على سبيل المثال لا الحصر، وهذا موثّق في وسائل الإعلام اللبنانية والسعودية على حدّ سواء، وعودة بسيطة إلى الأرشيف تؤكّد ذلك.
على أنّ التساهل الحكومي اللبناني مع التدخّل السعودي في التحقيقات، وصل إلى حدّ السماح بنقل الموقوفين السعوديين إلى المملكة العربية السعودية وهذا ما كرّسه للمرّة الأولى النائب العام التمييزي المتقاعد سعيد ميرزا، فلم يعد الأمن السعودي يكتفي بالحضور إلى لبنان والاشتراك في التحقيق مع مواطنيه الارهابيين، بل يتولّى نقلهم من أماكن توقيفهم في السجون اللبنانية، إلى السعودية ضمن مهلة زمنية قد تصل إلى شهر واحد، على أن يجري إرجاعهم إلى لبنان بعد الانتهاء منهم، وانتزاع معلومات إضافية منهم تتصل برفاقهم المنتشرين في المدن والقرى السعودية التي تعتبر الرافد الأوّل لتنظيم “القاعدة” وبقيّة التنظيمات العاملة تحت لوائه أو المتفقة معه في مشاريعه الترهيبية.
ومن يعلم، فقد تكون غاية التدخّل السعودي في التحقيق ليس التفرّد بمعلومات ترتبط بالسعوديين المنضوين في “القاعدة”، خصوصاً وأنّ إمكانية تحصيل مثل هذه المعلومات إذا ما كثّف الأمن السعودي جهوده في مكافحة “القاعدة” وإرهابها وأوقف ناشطين فيها، كما يدعي مراراً، وإنّما السعي إلى إعمال تغيير، أو تبديل، أو تحويل في مضمون هذه التحقيقات خدمة لأهداف استخباراتية محدّدة.
ففي المحصّلة، ليس سرّاً القول، إنّ لكلّ المجموعات التكفيرية علاقات وثيقة بالاستخبارات الأجنبية وخصوصاً الأميركية منها،لا بل هناك من يقول إنّ “القاعدة” صناعة أميركية أوكل إلى استخبارات بعض الدول العربية المقرّبة جدّاً من الولايات المتحدة الأميركية، أمر رفدها بالعناصر عبر استغلال بيئتها الحاضنة لكلّ أشكال وأصناف التكفيريين.
واللافت للنظر أنّ صلاحية محاكمة السعوديين الموقوفين في لبنان هي من اختصاص القضاء اللبناني بحكم الصلاحية الاقليمية لقانون العقوبات اللبناني، لأنّ الجرم وقع على الأراضي اللبنانية، وبعد إنهائهم محكوميتهم وخروجهم من السجن يتمّ ترحيلهم إلى السعودية التي يعود لها عندئذ إعادة محاكمتهم أو عدم إخضاعهم للمحاكمة، غير أنّه قبل انتهاء هؤلاء من تمضية عقوبتهم في السجون اللبنانية، لا يمكن تسليمهم إلى دولتهم، خصوصاً في ظلّ عدم وجود معاهدة قضائية بين البلدين تنصّ في أحد بنودها على هذا الأمر، إلاّ إذا اقتضت السياسة عكس ذلك، وقرّرت الحكومة اللبنانية تسهيل التسليم قبل انتهاء فترة العقوبة القضائية، وهو صعب التحقّق وبعيد المنال.
وسبق للسفير السعودي في بيروت علي عواض عسيري أن أرسل كتابين إلى النائب العام التمييزي الأسبق سعيد ميرزا طلب فيهما نقل الارهابيين السعوديين المحكومين في لبنان إلى بلدهم لتمضية محكوميتهم في سجونه، معوّلاً على “العلاقة المميّزة” بين البلدين، وعلى وجوب “النظر إلى هؤلاء السجناء بعين الرحمة حتّى يمكنهم التواصل مع ذويهم” كما ورد في تصريح صحافي له، من دون أن يلقى أذناً صاغية لخروج الأمر عن إرادة ميرزا بحكم القانون، ولو عاد إليه لفعل وعلى الفور.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل نظر هؤلاء التكفيريون بعين الرحمة إلى لبنان وشعبه عندما قَدِموا إليه لنهبه أمنياً وإقلاقه وإثارة البلبلة فيه؟.
يذكر أنّ كلّ السفارات ترسل ممثّلين عنها إلى قصر العدل أو المحكمة العسكرية، لحضور الجلسات العلنية لمحاكمات مواطنيها المتهمّين بأعمال إرهابية تحديداً، حيث يُشاهدون وهم يدوّنون على سجّلات يحملونها وقائع الاستجواب والمحاكمة ليبنوا عليها موقفاً من هؤلاء حفاظاً على أمن أوطانهم ومواطنيهم.
موقع العهد الإخباري – علي الموسوي