الرسائل التي لن تهدأ في لبنان
صحيفة المنار الصادرة في فلسطين عام 1948 ـ
الدكتور بهيج سكاكيني:
التفجيرين الإرهابيين الذين استهدفا السفارة الإيرانية في بيروت وما حولها يأتي ضمن سياق توجيه رسائل سياسية في الداخل اللبناني، مع فارق هذه المرة حيث أن المستهدف الرئيسي كانت ايران فالسفارة كمبنى تعتبر أرض خاضعة للسيادة الإيرانية، وبالتالي فهذا العمل الاجرامي يمكن اعتباره موجها الى ايران بشكل مباشر ودون مواربة سياسية. كما أن الأسلوب الذي نفذت به العملية الإرهابية المزدوجة كان يهدف لقتل أكبر عدد ممكن من السكان المدنيين في المنطقة التي تقع فيها السفارة، حيث جاء التفجيرين بفاصل زمني لم يتعدى بضع دقائق بينهما.
فما أن تجمع الناس في المكان بعد التفجير الأول لمعاينته ومساعدة الجرحى حتى فجر الانتحاري الثاني نفسه في السيارة المفخخة، موقعا خسائر كبيرة في الأرواح. ويشكل دخول الانتحاريين والاحزمة الناسفة على الساحة اللبنانية منعطفا خطيرا وخاصة أنه على ما يبدو أن لبنان مرشح لان يكون مسرحا لعمليات إرهابية على امتداد الجغرافية اللبنانية، كما حذر ويحذر الكثيرون. ويتساءل البعض محقا هل نحن على اعتاب موجة من التفجيرات على غرار النمط العراقي بالتحديد؟ وربما جزء من الإجابة على هذا السؤال قد ضمن في البيان الذي أصدرته كتائب عبدالله عزام المرتبطة بتنظيم القاعدة والتي أعلنت فيه مسؤوليتها عن الهجوم الانتحاري المزدوج على السفارة الإيرانية. فقد أعلن الشيخ سراج الدين زريقات القيادي الديني في الجماعة على ما اسماه “بالغزوة على السفارة الإيرانية بأنها عملية استشهادية مزدوجة لبطلين من أبطال أهل السنة في لبنان” وأن هذه العمليات “ستستمر في لبنان- بإذن الله- حتى يتحقق مطلبين: الأول سحب عناصر حزب ايران ( والمقصود طبعا حزب الله) من سوريا ،والثاني فكاك أسرانا من سجون الظلم في لبنان”. وأول ما يشير اليه البيان هو أن دائرة الاستهداف هو محور المقاومة وهذا لم يعد شيئا جديدا، فالتفجيرات السابقة في الضاحية الجنوبية كانت لتوصيل الرسالة الى الحزب المقاوم حزب الله ووقوفه المبدئي الى جانب سوريا في الحرب الإرهابية والكونية التي تتعرض لها. أما الإشارة الى أن من قام بهذه هم ” من أبطال أهل السنة في لبنان..” فهو يهدف الى تأجيج الصراع الطائفي والمذهبي في لبنان وهذا أيضا ليس بالجديد فالتفجير الارهابي في طرابلس وكذلك في الضاحية الجنوبية كان يهدف لجر الشارع اللبناني الى الاقتتال الطائفي والمذهبي. أما التهديد الصريح باستمرار مثل هكذا عمليات إرهابية فهو يأتي ضمن عملية ترهيب الشعب اللبناني وزرع الخوف في نفوس الناس واحداث شرخ بين المقاومة والشعب اللبناني وخاصة في المناطق التي تعتبر البيئة الحاضنة للمقاومة. والبيان يشير يشكل واضح وصريح ولأول مرة أن الدولة اللبنانية أصبحت في دائرة الاستهداف حيث يحدد البيان ان العمليات ستستمر الى أن يتحقق إطلاق سراح إرهابي القاعدة المتواجدين في السجون اللبنانية. والسؤال المطروح هنا وبشكل ملح ماذا سيكون تصرف القوى الأمنية والسياسية اللبنانية مع غياب سلطة لبنانية فاعلة على الأرض، للحد الذي يرى فيه البعض بأن الدولة غائبة كليا وأن لبنان قد تحول الى دويلات وامارات ومربعات أمنية يحرم على الجيش اللبناني والقوى الأمنية دخولها. ولا شك أن المراوحة في المكان فيما يختص بتشكيل الحكومة اللبنانية، وخاصة من ان العديد من الأطراف المحلية والإقليمية ما زال يرهن هذه المسألة بحلم ابليس في تغيير موازين القوى على الأرض السورية لصالح الإرهاب، نقول أن المراوحة هذه لن تساعد في ضبط الامن في لبنان، ليس هذا فحسب بل أن هكذا وضع متميز بالشلل التام تقريبا للدولة ومؤسساتها سيعطي المناخ والتربة الصالحة لانتشار الإرهاب على الساحة اللبنانية أكثر وأكثر. ومما يزيد الامر خطورة هو وجود بعض التيارات السياسية المتنفذة في لبنان التي تقوم على اعطاء الغطاء الأمني لمثل هذه الجماعات أو تعطي التبريرات الواهية لوجودها بدلا من الوقوف بحزم ضدها. ولقد سبق وأن حذر الكثيرون ومن ضمنهم وزير الداخلية اللبناني من تواجد مثل هذه الجماعات الإرهابية في لبنان في طرابلس على سبيل المثال وخطورتها على الأوضاع الأمنية اللبنانية، ولكن كل هذه التحذيرات ذهبت أدراج الرياح دون ان تؤخذ الخطوات الجادة لاجتثاث هذا الوباء التكفيري على الساحة اللبنانية، فكان ان كبر واستشرى. وما التفجيرات الإرهابية التي يشهدها لبنان الا النتيجة الطبيعية لمثل هكذا سياسة. ويكتسب توقيت هذه العملية الاجرامية أهمية كبيرة. فهي تأتي في سياق التقارب الإيراني الغربي وخاصة مع الولايات المتحدة فيما يخص البرنامج النووي الإيراني وإمكانية حل هذا الملف من خلال المباحثات، والتي حققت الكثير من النجاحات في مؤتمر جنيف بين ايران والدول الست، على الرغم من الدور السلبي المعطل الذي لعبته فرنسا بالتنسيق مع الكيان الصهيوني والسعودية والذي كنا قد أشرنا له في مقال سابق على صفحات المنار. ويعتقد الكثير من المحللين أن التوقيع على اتفاق قريبا بات أمرا ممكنا. مما لا شك فيه أن التقارب الايراني-الأمريكي قد شكل نوع من الزلزال الاستراتيجي في المنطقة على الأقل بما قد يحمل في طياته الكثير من التداعيات والارتدادات على كل الملفات الساخنة في المنطقة السورية والعراقية والبحرانية واللبنانية واليمنية…الخ. وهنالك دول إقليمية خاصة إسرائيل والسعودية تشعر بأن هذا سينعكس سلبا عليها وعلى دورها وحجم تأثيرها الإقليمي، ومن هنا فقد جندت هاتين الدولتين كل طاقاتها الدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية وغيرها بمنظومة متكاملة لإفشال المباحثات الجارية بين ايران والدول الست. ولهذا نرى أنه وبغض النظر عن الجهة التي نفذت هذه العملية الاجرامية، فأنها في نهاية المطاف تأتي لتخدم المخطط الإسرائيلي والذي يتقاطع مع بعض الدول الإقليمية وعلى رأسها السعودية. وهذا لم يعد سرا حيث أشارت العديد من وسائل الاعلام عن التنسيق والاجتماعات السرية والعلنية بين الكيان الصهيوني والسعودية. ويجب أن نؤكد أيضا فيما يختص بالتوقيت لهذه العملية، أنها تأتي على خلفية الانتصارات الميدانية التي يحققها الجيش السوري البطل في دحر قوى الظلام والتكفير على الأرض السورية والتي كان اخرها في قارة في منطقة القلمون. وكان امير الإرهابيين الأمير بندر بن سلطان السعودي قد هدد بإشعال الحرب ونار الفتنة في لبنان مؤخرا فيما اذا ما شارك حزب الله في معركة القلمون. في الخلاصة نقول أن المنطقة تمر في مخاض عسير، وستعمل كل قوى الظلام والتكفير والدول المتضررة من التغيرات على الساحة الإقليمية والدولية كل ما في وسعها وبكل ما اوتيت من قوة على عرقلة مسار التغير لصالح شعوب المنطقة وقواها المقاومة لمشاريع التقسيم للمنطقة على اسس طائفية ومذهبية وعرقية، لإفساح المجال لسيطرة وهيمنة الكيان الصهيوني عليها. ولهذا من المرجح أن تتصاعد حدة الصراعات في الأيام القادمة وستشهد المنطقة ودولها مزيد من هذه العمليات الإرهابية، ولكن في المقابل فان قطار الخلاص أيضا يتسارع وما هي الا قضية وقت لتحقيق القضاء على هذا الوباء الإرهابي التكفيري.