الحسابات الأميركية في مواجهة روسيا
موقع العهد الإخباري-
د. علي مطر:
تشهد سياسة الولايات المتحدة الأميركية تغيرات كثيرة ومستمرة وكبيرة. ليس أقل هذه التغيرات عدم الدخول في حروب عسكرية مباشرة، طالما أنها تستطيع التعويض عنها من خلال الحروب الاقتصادية والسيبرانية والأمنية وصناعة الأزمات بوجه خصومها وأعدائها. تدرك الإدارة الأميركية اليوم أن خصومها لم يعودوا كما كانوا إبان الحرب العالمية الثانية ومن ثم الحرب الباردة، بل هناك أطراف تستطسع تغيير معالم السياسة الدولية، وهي تواجه إلى حد ما عصرًا جديدًا في العلاقات الدولية والتحولات التي يشهدها النظام الدولي بشكل يؤثر على هيمنتها على العالم، لا سيما أمام التعاون الاستراتيجي الروسي الصيني الإيراني.
منذ وصوله إلى رئاسة البيت الأبيض، يحاول جو بايدن، أن يظهر نفسه حازمًا في إدارة ملفاته الخارجية خاصة في مواجهة القوى الكبرى، نعني هنا روسيا والصين، على اعتبار أن أسلافه لم يظهروا هذا الحزم في ملفات الإدارة الخارجية، مثال ذلك رعونة باراك أوباما في مواجهة ضم الرئيس فلاديمير بوتين لجزيرة القرم. يريد بايدن أن يثبت أيضًا أن واشنطن هي القوة الأولى المتربعة على عرش العالم، وأن يعيد مصداقية إدارتها في ملفات السياسة الدولية، بعد الانسحاب من أفغانستان. لكن هذه الإدارة لم ترق بعد بحسب أطراف غربيين ومنهم أوكرانيا، إلى ردع خصمها الروسي في عمليته العسكرية بأوكرانيا، بعد أن كانت واشنطن تتوعد موسكو لردعها عن هذه العملية، وتمنع عبر ذلك أطرافًا أخرى كالصين مثلاً من غزو تايوان.
خمسة عشر يومًا مضت على بدء العملية الروسية في أوكرانيا، لا تزال الحركة الأميركية مقيدة فيها بعدم الدخول في حرب عسكرية مباشرة أو صدام يؤدي إلى حصول هذه الحرب مع روسيا، لذلك ذهبت إلى فرض عقوبات قاسية على موسكو تحملها تكاليف عالية كرد على عمليتها، إلا أن ذلك لم يمنع الرئيس الروسي من استكمال مساره إلى الآن، فواشنطن تدرك جيدًا أن القوة الروسية الهائلة قادرة على المواجهة وأن حسابات العملية العسكرية الروسية مع أوكرانيا مختلفة عن الدخول في حرب شاملة، خاصةً أن لروسيا ترسانة عسكرية ضخمة وموقعًا جغرافيًّا حيويًّا يجعلها تدافع عنه كخط أحمر يرتبط بأمنها القومي، بينما لا توجد مخاطر مباشرة على الأمن القومي الأمريكي في المنطقة يجعلها تدخل في حرب مباشرة، وهذا السبب لم يجعل الإدارة الأميركية مثلاً تواجه روسيا إبان غزوها لجورجيا، واليوم وبعد مرور أربعة عشر عامًا أعلنت واشنطن صراحة أنها لن تدخل في دعم قواتي عسكري مباشر لأوكرانيا، طالما أن ذلك خارج نطاق حلف شمال الأطلسي.
وفق ما تقدم يأتي الرفض الأميركي الحالي لقضية نقل مقاتلات من بولندا، إلى أوكرانيا، لمواجهة القوات الروسية، وذلك للأسباب التي تحدثنا عنها، إذ يتخوف الأميركي حتى الآن من أن تؤدي هكذا خطوة إلى توسع المواجهة العسكرية مع القوات الروسية، وبالتالي الدخول في حرب -في مساحة أوسع وخطورة أكبر- لا تزال واشنطن بغنى عنها، وقد أعلن البنتاغون صراحةً رفضه لهذه الفكرة، كما أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن هذا الأمر معقد وإن كان يؤيد الفكرة.
أظهر مقترح تزويد بولندا لأوكرانيا بالمقاتلات، أيضًا، الانقسام داخل الإدارة الأميركية، وكذلك داخل حلف شمال الأطلسي، حول كيفية دعم أوكرانيا ومواجهة روسيا، وهذا الأمر يطرح تساؤلات كبيرة لدى الغربيين عن كيفية التعامل الأميركي مع العملية الروسية وفكرة دعم أوكرانيا بعيدًا عن الدخول في صدام مباشر مع موسكو، لا سيما وأن هكذا خطوة سوف تعطي موسكو ذريعة جديدة للتصعيد، في حين أن دولًا مثل بولندا تقع في مرمى القوات الروسية، وقد حذرت الأخيرة من أن دعم القوات الجوية الأوكرانية سينظر إليه في موسكو على أنه مشاركة في الصراع ويفتح الباب أمام الموردين لردود انتقامية محتملة.
الأمر الآخر، الذي يعكس مدى دقة الحسابات الأميركية من الدخول في حرب مباشرة مع روسيا، هو رفضها و”الناتو” المطالبات الرسمية الأوكرانية بإنشاء منطقة حظر جوي، وقد قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي صراحةً إن ذلك “سيعني بشكل أساسي أن الجيش الأمريكي سوف يُسقط الطائرات الروسية. هذا تصعيد واضح ومن شأنه أن يضع أمريكا في صراع عسكري مباشر مع روسيا”.
وفيما حذر بوتين من أن “أي تحرك في هذا الاتجاه سنعتبره مشاركة في نزاع مسلح من قبل ذلك البلد” الذي سيستخدم أراضيه “لتشكيل تهديد لقواتنا العسكرية”، قال بايدن لشبكة NBC إنها “ستكون حربًا عالمية إذا بدأ الأمريكيون وروسيا بإطلاق النار على بعضهم البعض”. بعبارة أخرى، قد يؤدي دخول الولايات المتحدة في الصراع مباشرة إلى اندلاع حرب عالمية.
إذًا تنطلق حسابات واشنطن من أن أي خطوة من هذا النوع، سوف تحول البراغماتية الممكنة للخروج من المستنقع، إلى حرب مختلفة ستكون تداعياتها عالمية، بسبب امتلاك الأطراف القوة المتفلتة والمترامية التي تهدد العالم، لذلك فإن حسابات الإدارة الأميركية تجعلها فقط تحاول التأثير على مجريات المعارك، وفرض عقوبات تؤذي روسيا، دون الذهاب أكثر في استفزازها عسكريًا، وهذا ما جعلها تأخذ حذرها وترفض تزويد أوكرانيا بمقاتلات حربية أو تفرض حظرًا جويًّا فوقها.