الجيش يحكم باكستان.. لكن دستورياً
موقع إنباء الإخباري ـ
هادي حسين:
عجيبةٌ هي الكلمات، فحيناً تكون طيّعة شرقية كلها معنىً ودلالة ، وحيناً آخر تكون عنيدةٌ خبيثة لا تسعفك بالعبارة .
لا شك في أن للخبرة دورها، وكذا الحيلة في التعامل مع بعثرة اللغة في عصر ما بعد الحداثة .
ومن خلال متابعتي للشأن الباكستاني لم أجد بناءً لغوياً أكثر بلاغةً ودقةً حول الوضع السياسي في باكستان من مقولة مدير مكتب الجزيرة في اسلام آباد الدكتور أحمد موفق زيدان:
“باكستان.. جيش له بلد”.
بعد إزاحة الجنرال برويز مشرف عن الحكم عام 2008 استبشر الباكستانيون خيراً، وفي عام 2013 عندما أكمل آصف علي زرداري ولايته لأول مرة في تاريخ باكستان راح الإعلام والنُخب يرسمون أحلاماً وأحلاماً عن نهوض العملية السياسية في باكستان والتطور الديمقراطي وابتعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم، بعد أن ظلت شبحاً يمشي في الليل والنهار أمام من اختبر التاريخ السياسي لباكستان الذي هو في الحقيقة تاريخ الجيش الباكستاني.
حزيران/ يونيو 2013 كان لباكستان موعد مع أول انتقال ديمقراطي للسلطة، وتسلم نواز شريف مقاليد الحكم، حيث سارع تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام إلى تعيين الجنرال راحيل شريف، معتقداً أن الأخير سوف يعضده في تثبيت الحكم المدني، وكأني بنواز شريف قد وقع فيما وقع فيه “ذوالفقار علي بوتو” عندما عيّن الجنرال ضياء الحق الذي ختم مسيرة “بوتو” السياسية بالقتل، رغم أن الأخير قد تخطى بتعيين ضياء الحق مجموعة جنرالات من الجيش الباكستاني .
فشرع نواز شريف بمحاكمة “مُحرمة” للجنرال السابق “برويز مشرف” بتهمة الخيانة العظمى من جهة، ومن جهة أخرى، قام بزيارة إلى الهند لمد جسور التعاون التجاري، مصطحباً ولده في مايو من العام الماضي (2014)، وهي زيارة امتعض منها الجناح المحافظ في باكستان.
بالإضافة إلى ذلك، برزت مماطلة نواز شريف في شأن الملف الأفغاني وعدم رغبته بالتدخل بهذا الملف، على العكس من رؤية المؤسسة العسكرية التي تنظر إلى أفغانستان على أنها العمق الإستراتيجي لباكستان واعتبارها أن عدم ممارسة باكستان “واجبها” في أفغانستان يعني فسح المجال لنفوذ هندي ممنوع في أفغانستان ، فالجيش يعتبر الهند هي المسؤولة عن الفوضى الموجودة في إقليم بلوتشستان الباكستاني .
إلى جانب ذلك ، كان المناخ قد أصبح أكثر دفئاً وبدأ يُبشر “بربيع خاكي” مهّد لانقلاب ناعم إنتهى بتفاهم تقاسم الحكم، أجبر نواز شريف عل المحافظة عليه، للحفاظ على كرسي رئاسة الوزارة، معتقداً أن جلوسه على الكرسي سيستمر إلى آخر ولايته، لأنه لا داعي لخلعه إذا كان كل شيء بيد الجيش، حتى مع وجوده، الديمقراطي والشرعي، كرئيس للوزراء!!
في البداية، كان أن إصطفت وسائل الإعلام إلى جانب مخابرات الجيش بعد قضية الإعلامي “حامد مير” في العام الماضي وسحب الرخصة من التلفزيون الذي يعمل فيه (Geo news).
من ثم، أدى انطلاق المظاهرات التي قادها عمران خان ورجل الدين طاهر القادري بنواز شريف لأن يجثو على ركبتيه من آب/ أغسطس 2014 حتى تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام أمام الجيش، باعتباره مؤسسة وطنية حيادية، رضيت بها كل الأطراف حكماً بين الحكومة والأحزاب المعارضة في الشارع، بعد فشل وساطات عدة، كان أبرزها التي قام بها آصف علي زرداري.
لكن المفاجأة كانت أن الجيش لم يقم بإنقلاب في لحظة لطالما كانت مناسبة للجيش ولطالما فعلها، بل توجه إلى وزيرستان ليقوم بعملية أمنية كبيرة تحتاجها المؤسسة الأمنية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي زارها قائد الجيش الباكستاني الجنرال رحيل شريف في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، حيث لبث فيها عشرة أيام والتقى الرئيس أوباما ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس ووزير الخارجية العجوز جون كيري وغيرهم من المسؤولين الأمريكيين.
تلا ذلك، في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه (2014) تفجير إرهابي في بيشاور نال من مدرسة تابعة للجيش الباكستاني في بيشاور، ما فرض وحدة وطنية ضد الإرهاب وتعاطفاً كبيراً ـ كان في وقته ـ مع المؤسسة العسكرية التي تخوض حرباً شعواء مع الإرهاب في وزيرستان بتأييد أمريكي – دولي، ما أعاد المياه إلى مجاريها تدريجياً بين باكستان والولايات المتحدة الأمريكية التي عانت مما أسمته سياسة باكستان المزدوجة ضد الإرهاب، وذلك بفضل الجهود والوعود الديبلوماسية لقائد الجيش راحيل شريف، وسرعان ما أثمرت هذه الدبلوماسية عودة الحوار الإستراتيجي بين باكستان والولايات المتحدة الأمريكية وزيارة جون كيري لباكستان في بداية العام الجديد 2015.
تزامنت زيارة كيري لباكستان مع تعديل دستوري ـ أجمع عليه البرلمان الباكستاني ـ لإنشاء محاكم عسكرية ، وهو التعديل الذي اعتبره البعض ضربة كبيرة في التحول الديمقراطي لباكستان بعد الإطاحة بمشرف 2008.
فمن جديد عاد الجيش للحكم، ومن خلال القانون والمؤسسة التشريعية الأولى في البلاد ، تماماً كمجلس الأمن القومي التركي (NSC )الذي أدخل الجيش في تركيا بالحكم دستورياً، رغم جهود اردوغان لتقويض الجيش، لكنه أصبح جزءاً لا يتجزء من الدستور .
أما السر وراء عودة الجيش دوماً للحياة السياسية في باكستان فيعود لكونه الحل الأنسب لشرائح واسعة من طبقات الرأي العام والطبقات الوسطى المحافظة في ظل نظام إنتخابي قد عفا عليه الزمن و لا ينتج إلا طبقة حكم أسرية على شاكلة الأسر الحاكمة في الخليج لكن مع المداورة.
بذلك يصبح الجيش هو الحل، بالتالي هو جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية الباكستانية، خصوصاً مع ملاحظة ثالوث الهوية الذي تقوم عليه باكستان، أي الملف النووي وكشمير وإسلامية الدولة، ما يجعل الجيش هو عمدة الحكم السياسي في باكستان .