«الجهاديون» والاستخبارات.. اختراق وعلاقات سرية
تتراوح النظرة إلى العلاقة بين أجهزة الاستخبارات من طرف والفصائل «الجهادية» من طرف آخر، بين «الاختراق وتقاطع المصالح» وبين «العمالة والتبعية المطلقة».
وتتخذ هذه العلاقة أشكالاً مختلفة، بعضها ظاهر معلن، وغالبيتها يبقى تحت بند «سري للغاية». وغالباً ما تشهد العلاقة بين الاستخبارات و«الجهاديين» تحولات مفصلية تنتقل بها من حالٍ إلى حال.
وأيّاً كانت هذه العلاقة وطبيعتها وشكلها، يظل الاطلاع عليها ومعرفة خفاياها مقتصراً على عدد محدود من الطرفين، فلا كل رجال الاستخبارات منخرطون في هذه العلاقة، ولا كل «الجهاديين» مطّلعون على مجرياتها. وهذا ما يزيد من غموض العلاقة، ويتيح لكلا الطرفين هوامش واسعة لنفي وجودها أصلاً، والتنصل من كل الأدلة والبراهين التي تثبتها.
وقد تكون الأزمة السورية، بتطوراتها وتحولاتها، وانتقال إدارتها من يد إلى يد، أحدث النماذج وأكثرها وضوحاً عن حقيقة هذه العلاقة بين طرفين متناقضين، اضطرتهما المصلحة والضرورة إلى الالتقاء، رغم كل الخلافات التي يفترض أن تباعد بينهما.
والمثال الأبرز الذي يوضح عدم وعي «الجهاديين» بوجود هذه العلاقة، هو تفسيرهم لكيفية تمكنهم من عبور حدود دول عدة، ومن ثم الدخول الآمن والسهل إلى الأراضي السورية من دون أن يوقفهم أحد. إذ يلاحظ أن غالبية هؤلاء يفسر الأمر على أنها «معيّة الله» التي وقفت معهم وسهلت لهم المرور، بل وأحياناً أعمت عيون أجهزة الاستخبارات عنهم، خصوصاً عندما يكون «الجهادي» مطلوباً وممنوعاً من السفر في بلده الأم. بينما أصبح جليّاً أن قراراً سرياً، اتخذته مجموعة من الدول الغربية والعربية، هو الذي نطق بالكلمة السحرية «افتح يا سمسم» لتفتح حدود الدول على مصراعيها أمام عبور «الجهاديين» من كل أصقاع العالم إلى سوريا، وتغمض عيون أجهزة الاستخبارات عنهم.
ولكن ليس «الجهاديون» فقط من دخلوا إلى سوريا عبر الحدود المفتوحة، بل عبر أيضاً رجال تابعون لأجهزة استخبارات العديد من الدول المعنية بالموضوع السوري، وانتسب بعض هؤلاء إلى الفصائل «الجهادية» بهدف مراقبتها من الداخل، وهو أضعف أنواع «الاختراق» ومردوده عادة ما يكون ضعيفاً وغير مؤثر.
أما الاختراق الأهم الذي تحاول بعض أجهزة الاستخبارات تطبيقه، فهو العمل على تجنيد شخصية قيادية في تنظيم معين، وكلما زادت أهمية منصب هذه الشخصية كلما كان الاختراق ناجعاً ومفيداً. وهذه الحالة تجري بطرق عدة، منها اصطياد قيادي في أحد التنظيمات وتطويعه عبر طرق وأساليب معينة تجعل منه طوع بنان جهاز الاستخبارات الذي اصطاده، ومنها تنشئة وتدريب شخص معين وإدخاله إلى تنظيم ما ليرتقي به تدريجياً حتى يصل إلى منصب قيادي يتيح له تقديم الخدمات لجهاز الاستخبارات الذي يعمل لمصلحته.
ومن أهم الأمثلة على هذا «الاختراق القيادي» أبو مصعب الجزائري أحد قادة «جيش المهاجرين والأنصار» الذي ربطته علاقات وثيقة بالاستخبارات التركية، وقبض عليه أمنيو «جيش المهاجرين والأنصار» بعد خروجه من اجتماع مع عدد من الضباط الأتراك، واتهمه «المفتي العام للمهاجرين والأنصار» راكان الرميحي، في بيان رسمي، أنه مُخْتَرق من قبل الاستخبارات التركية. ولم يطل رد أنقرة على افتضاح هوية عميلها، حيث سارعت إلى اعتقال الرميحي وتسليمه إلى سلطات بلاده السعودية، بعد أسابيع فقط من إصداره بيان الاختراق.
وأخطر أنواع الاختراق هو «الاختراق بصنع البديل»، حيث تلجأ أجهزة الاستخبارات إلى تشكيل كيان مطابق للتنظيم المستهدف، سواء من حيث العقيدة أو المنهج أو السلوك، ولكن الفرق الوحيد هو أن التنظيم المُخْتَرَق يتبع لها مباشرة وينفذ أوامرها. وتستفيد الاستخبارات من هذا الاختراق باجتذاب أعداد كبيرة من المقاتلين المخدوعين بعناوين التنظيم المنهجية والعقيدية، وبالتالي حرمان التنظيم المستهدف منهم، والفائدة الأكبر تتحقق عندما تسعى الاستخبارات إلى إشعال المعارك بين التنظيمين، بما يسمح لها التخلص من كليهما أو على الأقل إضعاف التنظيم المستهدف واستنزافه.
وتأكيداً لذلك يلاحظ أن الفصائل «الجهادية» في سوريا بدأت تتهم بعضها البعض أنها صنيعة الاستخبارات، أو عميلة لهذا الجهاز الاستخباراتي أو ذاك، حيث يوجه بعض الفصائل اتهامات إلى تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» (داعش) بأنه صنيعة نظام «البعث» العراقي، حسب قولها، محاولةً بشتى السبل إثبات علاقته بجهاز الاستخبارات السوري، بينما يتهم «داعش» مثلاً «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» بأنهما عميلتان للاستخبارات السعودية والأردنية. والحرب الدائرة بين الطرفين، منذ ما يقارب أربعة أشهر، تشي أن أحد هذه التنظيمات على الأقل قد يكون بالفعل «بديلاً»، ويقوم بدور البيدق لمحاربة بعض التنظيمات الخارجة عن كل سيطرة.
وبحسب المعطيات حتى الآن يمكن القول إن «الجبهة الإسلامية» هي من تقوم بهذا الدور لمصلحة أجهزة استخبارات إقليمية ودولية بهدف ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول محاربة النظام السوري، والثاني الحدّ من اتساع نفوذ الفصائل الأكثر تطرفا، مع تحفظ واحد هو أن تشكيل «الجبهة الإسلامية» غير متجانس، وبالتالي من الممكن أن تنقسم على نفسها بعد توقف الحرب مع «داعش»، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تصفية هذه الفصائل وضربها ببعضها البعض.
وهناك العديد من أجهزة الاستخبارات التي لديها مصلحة في العمل على اختراق الفصائل «الجهادية» في سوريا، سواء كان اختراقاً من النوع الأول أو الثاني. ويعتقد أن أكثر أجهزة الاستخبارات نشاطاً في هذا المجال هي الأميركية والتركية والأردنية والألمانية والفرنسية، علاوة بالتأكيد على الاستخبارات السورية والروسية والعراقية التي لها مصلحة مباشرة في مراقبة هذه التنظيمات والاطلاع على كواليسها. والجدير بالذكر أن الفصائل «الجهادية» الكبيرة، مثل «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، لديها كتائب أمنية سرية يتركز قسم كبير من نشاطها على محاولة منع الاختراق قبل حصوله.
وكان لافتاً بالفعل أن يشير زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، في تسجيله الصوتي الأخير، إلى «الاختراق الناعم» الذي يجري عبر المشايخ ورجال الدين الذين يسدون نصائح وتوجيهات قد يكون لها تأثير في الفصائل «الجهادية»، لا يقل عن تأثير الاختراق الاستخباراتي.
لكن هنا ينبغي ألا يغيب عنّا أن غالبية هؤلاء المشايخ، أو رجال الدين، يكون لهم ارتباط مع أجهزة الاستخبارات في بلادهم ويعملون وفق توجيهاتها. وهنا يبرز الدور الذي يقوم به بعض مشايخ ورجال الدين الخليجيين عموماً، والكويتيين والسعوديين خصوصاً، مثل عبدالله المحيسني وعبدالعزيز الطريفي وحجاج بن فهد العجمي وموسى الغنامي وغيرهم.
وإذا كانت الفصائل «الجهادية» تبذل جهوداً كبيرة لمكافحة الاختراق ومنعه، إلا أن حرص هذه الفصائل يزول أمام شكل آخر من أشكال الارتباط والتعاون مع أجهزة الاستخبارات، هو شكل تقاطع المصالح، بل إنها تسعى بكل طاقتها إلى استغلال هذا التقاطع، ومحاولة الاستفادة منه بكل ما أوتيت من قدرات وإمكانيات. وفي هذا الشكل، يبدو كلاً من الاستخبارات و«الجهاديين» كأنهما يسعيان بتناسق وتناغم نحو هدف مرحلي واحد، رغم أن أهدافهما البعيدة مختلفة ومتناقضة. وهذا التناغم والتناسق هو ما يدفع إلى الاعتقاد أن «الجهاديين» ما هم سوى أداة بيد أجهزة الاستخبارات، أو انهم عملاء لها. وهذا الاعتقاد صحيح مبدئياً، لكن له وجهاً آخر، هو أن أجهزة الاستخبارات بدورها تظهر في بعض الحالات وكأنها أداة بيد الفصائل «الجهادية» وعميلة لها.
غير أن الأصح هو توصيف هذه العلاقة الناشئة بأنها علاقة جدلية، يتناوب فيها الطرفان الأخذ والعطاء وتبادل الخدمات وعقد الصفقات، إلى أن يظهر التناقض بين مصالحهما، فينقلب التناسق والتناغم إلى تضاد واختلاف، سرعان ما يتحول إلى عداء مستفحل. ونحن نعيش في سوريا حالياً إرهاصات هذه المرحلة المفصلية، إذ بدأت غالبية أجهزة الاستخبارات في العالم بقلب الطاولات على «الجهاديين» بعد أن وصلت هذه الأجهزة إلى نقطة أيقنت فيها أن الضرر من علاقتها بهؤلاء أكبر بكثير من المصالح المرتجاة.
لكن لا شكّ أن الوصول إلى هذه القناعة سبقه الكثير من المخاطر والأضرار التي لن يكون من السهل إزالتها والتغلب عليها، بعد أن ترسخت بما يشبه الحقوق المكتسبة لفئة «الجهاديين»، وكل ذلك بسبب قصر نظر أجهزة الاستخبارات التي لا تتوانى عن تكرار أخطائها في هذا المجال، بدءاً من أفغانستان وليس انتهاء بسوريا.
وفي خطوة عكسية، تحاول الفصائل «الجهادية» المغضوب عليها حديثاً من أجهزة الاستخبارات، أن تقوم باختراق يحقق مصلحتها الخاصة في صفوف الفصائل التي لا يزال مرضياً عنها. وقد أصبحنا نسمع عن خلايا نائمة لهذا التنظيم أو ذاك، تقوم بأعمال التجسس أو تسريب الوثائق أو الاغتيالات، أو عن أتباع لتنظيم معين ينتسبون إلى أحد الفصائل المرضي عنها، وينتظرون الأوامر لإظهار حقيقة ولائهم وانتمائهم. وفي حالات نادرة برزت معطيات من شأنها الدلالة على أن تنظيماً «جهادياً» ما قد تكون له عيون وجواسيس داخل أحد أجهزة الاستخبارات.
صحيفة السفير اللبنانية – عبد الله سليمان علي