الجمهورية الإسلامية الإيرانية.. إنتصار الحكمة والجغرافيا
موقع العهد الإخباري-
حيّان نيّوف:
“إن جمهورية إيران الإسلامية التي تقع بصورة ما في وسط أكبر مساحة يابسة في العالم تعد طريق عبور مهم وجسر اتصال في ربط آسيا بأوروبا”، لعل هذا التصريح لوزير النقل وإعمار المدن الإيراني “مهرداد بذرباش” يشكّل بمضمونه جواباً مختصراً وعميقاً لكثيرٍ من الملفات الإقليمية والدولية المتعلقة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية. ذلك أنه يعكس الأهمية القصوى والإستراتيجية للجغرافيا الإيرانية في آسيا وأوروبا وما يتفرع عنها من قضايا سياسية واقتصادية وتجارية، وتداخل كلّ ذلك السعي الإيراني الحثيث منذ قيام الثورة الإسلامية لاستغلال هذه الجغرافيا وحمايتها بما يليق بأهميتها وبالعمق التاريخي لإيران الكيان والدولة من جهة، وتداخله من جهة أخرى مع كل ما تعرضت له إيران طوال عقود من الزمن من مؤامرات وضغوط لتعطيل استثمارها بهذه الجغرافيا وبالتالي محاولة حرمانها من تبوء المكانة التي تستحقها على الصعيد العالمي..
كلام الوزير الإيراني جاء عشية توقيع اتفاق تاريخي بين روسيا وإيران لإنشاء الجزء المتبقي من ممر شمال-جنوب الإستراتيجي، هذا الجزء يربط بين مدينتي رشت واستارأ على الساحل الجنوبي الغربي لبحر قزوين عبر إنشاء سكة حديد بطول 162 كيومترا، وحصر توقيع كل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني ابراهيم رئيسي عبر تقنية الإتصال عن بعد.
الرئيسان الروسي والإيراني تحدثا عن أهمية الإتفاق كجزء من ممر شمال جنوب الإستراتيجي الذي يربط بين الشرق والجنوب الآسيوي وأوروبا انطلاقا من ميناء مومباي الهندي إلى ساحل ايران الجنوبي المطل على بحر العرب “ميناء تشابنهار” ووصولا إلى شمالها على بحر قزوين ومنها إلى دول آسيا الوسطى والقوقاز وعبر الاراضي الروسية إلى “سان بطرس بورغ” وشرق أوروبا، وذلك من خلال شبكة طويلة من السكك الحديدية وعدد من الموانئ البحرية.
ممر شمال-جنوب الإستراتيجي الذي جرى طرحه للمرة الاولى منذ عقدين من الزمن وتأخر إنجازه لأسباب عديدة تعود في أغلبها إلى سياسات العقوبات الامريكية والغربية على إيران ولاحقًا روسيا وإلى سياسة الضغط والترهيب والتدخل التي مارسها الغرب على دول عديدة وخاصة في القوقاز وآسيا الوسطى، بات اليوم حقيقة أوشك على انجازه بالكامل بعد أن تم تجريبه أكثر من مرة لاختبار ميزاته وفاعليته من كافة النواحي. الممر يوفر 30% من المدة اللازمة لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا، وكذلك يوفر في تكاليف النقل والتجارة ما نسبته 40%، بالقياس إلى الطرق والممرات الأخرى وخاصة قناة السويس.
لا يقتصر الموقع الجغرافي الإستراتيجي لإيران على الربط بين الشمال والجنوب عبر الممر الدولي المذكور، فهو أيضًا يشكل خيارًا حتميًا لربط دول وسط آسيا ورابطة الدول المستقلة بالمنفذ البحري الجنوبي على بحر العرب والمحيط الهندي، وكذلك لربط دول الخليج الغربية بميناء بندر عباس على الخليج ومنه عبر ممر شمال جنوب إلى وسط آسيا وروسيا وأوروبا، والأمر كذلك بالنسبة لربط الصين وباكستان عبر مشروع الحزام والطريق بتركيا والبلقان، وآخر لربط آسيا بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا حيث جرت مناقشة هذا المشروع الثلاثي مؤخرًا لإنشاء ربط سككي بين شلمجة والبصرة ومنها الى الموانئ السورية وبالعكس.
القيادة الإيرانية وعلى رأسها آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، أدركت منذ البداية الأهمية الإستثنائية للموقع الجيوسياسي الحساس لإيران وكانت تنظر له كرافعة وحامل للتعاون والشراكة والبناء والتطوير لدول اسيا ومن ثم بين اسيا وأوروبا بموازة كونه عامل قوة استراتيجية لإيران. ولأجل ذلك عملت إيران طوال عقود ومنذ انطلاق الثورة الإسلامية على إيلاء قطاع السكك الحديدية أهمية خاصة دون الإلتفات لسياسات العقوبات التي تتعرض لها، ودون انتظار لزوال الظروف السياسية الإقليمية والدولية اللازمة لتحقيق هذا الحلم، ولإيمانها المطلق بحتمية القدرة على التحول إلى عقدة وصل عالمية بين الشرق والغرب والشمال والجنوب وحتمية القدرة على التحول إلى منصة اقليمية وعالمية للتعاون. وطوال عقود من الزمن تمّ إنشاء العديد من خطوط النقل السككي داخل ايران وصولًا الى المنافذ البحرية والبرية استعدادًا لهذه اللحظة التاريخية التي بلا شك ستغير قواعد التجارة العالمية وطرقها وممراتها، بل إنها ستغير قواعد العلاقات وحتى مراكز الثقل الإقتصادية والجيوسياسية.
عائدات مالية كبيرة ستحققها إيران بلا شك، وبعض الخبراء قدروا تلك العائدات بأنها توازي عائدات للنفط، وبالرغم من ذلك فإن النقل عبر إيران سيكون هو الأرخص عالميًا، سواء لجهة الوفر الذي يمكن تحقيقه أو لجهة رسوم العبور وأجور النقل داخل الأراضي الإيرانية، وما يتفرع عن ذلك من شركات للنقل البري والبحري والسككي وما سيرافقه من تطوير وتنمية في كافة المجالات.
لا شك أن الولايات المتحدة الامريكية تكاد تنفجر غيظًا من هذه المكانة التي بلغتها إيران، في ذات الوقت التي باتت تشعر فيه بالعجز عن إيقاف ماكينة تحول إيران إلى دولة عظمى مركزية لها أهميتها في وسط البر الآسيوي الأوروبي، خاصة بعد فشلها في كل مخططاتها ومؤامراتها التي أطلقتها منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران العجز الأميركي عكسه التسارع الكبير للإنفتاح والتشبيك الإيراني بكل الإتجاهات، من بكين إلى موسكو ومن نيودلهي إلى الرياض، ومن آسيا الوسطى إلى البحر المتوسط، وأما الإعتراف بالهزيمة فكان جلياً في تصريحات الناطق باسم الخارجية الأمريكية التي علق فيها على اتفاق اتفاقية “رشت – آستارا” بالقول “على توقيع اتفاقية بناء خط السكة الحديد الاستراتيجي رشت-أستارا بالقول إن أي محاولة للالتفاف على العقوبات ضد روسيا تثير قلق واشنطن” وهو ضمنا يقصد العقوبات الامريكية على طهران وموسكو.