الجزائر ولعبة الاستقطاب العالمي.. الحياد المستعصي
موقع قناة الميادين-
حسام حمزة:
ما يعطي خصوصية لعلاقات الجزائر مع روسيا والصين ويضفي عليها طابعاً إستراتيجياً هو تبنيها رؤية تعديلية مراجعة للمنظومة العالمية ورفضها الهيمنة التي تجعل الدول الغربية ومصالحها أسمى وأولى بالتحقيق، ولو على حساب باقي شعوب العالم.
يعبّر إلحاح الجزائر المتواتر على تجذير مبدأي عدم الانحياز والحياد الإيجابي في سياستها الخارجية عن إدراكها ذلك الاستعصاء الذي يشوب فهم نمط تعاملها مع حركية الاستقطاب على مستوى المنظومة الدولية، ولكن زعم انحياز الجزائر إلى مصلحة أحد الأقطاب لا يعزى دوماً إلى استعصاء في الفهم، إذ يحدث أن يكون الأمر مقصوداً تحقيقاً لمآرب الجهة صاحبة الزعم.
هذا ما يفهم من عدم تفويت الرئيس الجزائري فرصة آخر لقاء إعلامي له ليكرّر -على نحو يهدف إلى التوكيد- تجذّر مبدأي العقلانية وعدم الانحياز في السياسة الخارجية الجزائرية: “نحاول أن نشرح لهم (لموسكو وواشنطن) أنّ انتماءنا ليس عسكرياً ولا انحيازاً أيديولوجياً، فنحن دولة وسطية، وعدم الانحياز هو سياستنا”.
ويلاحظ المتابع لتصريحات الرئيس الجزائري الإعلامية منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022 اشتمالها، بالمضمون أو الإفصاح، رسائل لأقطاب المنظومة الدولية، ولا سيما الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية، بأنّ الجزائر حريصة على الاحترام المتبادل والودي في علاقاتها مع الجميع، وأنّ مواقفها تتأسّس على قاعدة من العقلانية تجعل المصلحة الوطنية معياراً نهائياً لسياسة الجزائر الخارجية.
وبقدر ما يوحي موقف الجزائر هذا بحرصها على تجنّب التورّط في معركة التنافس العالمي بين الغرب والشرق، فإنه يعبّر أيضاً عن رغبتها في الحفاظ على شراكات مثمرة مع كلّ شركائها.
كان هذا الموقف الجزائريّ جليّاً منذ الأيام الأولى لنشوب الأزمة الأوكرانية، وجرى التعبير عنه ضمنياً في بيان صيني – جزائري مشترك في إثر زيارة لوزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة إلى بكين بين 19 و21 آذار/مارس 2022.
حينها، قالت الجزائر والصين: “في ما يخصّ القضية الأوكرانية، يلح الجانبان على ضرورة التمسّك بأهداف ميثاق الأمم المتّحدة ومبادئها، وعلى احترام سيادة الدول وسلامة أراضيها، مع التمسّك بمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة ومراعاة الانشغالات الأمنية المعقولة للأطراف المعنية”.
ولا خلاف في أنّ قراءة هذا الموقف على خلفية معرفة مسبقة بالأسباب الجيوسياسية للصراع ودوافعه تكاشفنا بحياد الجزائر حيال أطرافه والتوازن الذي راعته في بناء موقفها، غير أنّ إشكالاً وقع في تفكيك الموقف السابق تعكسه الضبابية التي اعترت طيفاً واسعاً من التحليلات والشروحات السياسية والأكاديمية التي عمدت إلى محاولة تفسيره.
إنّ ميلاً إلى اعتبار موقف الجزائر انحيازاً إلى روسيا لأنه لم ينطوِ على إدانة لها، طغى على جلّ تلك التحليلات والشروحات، والحاصل أنّ هذا الميل سببه تلك الفكرة الرائجة التي تعتبر أنّ كلّ من لم ينحز إلى الغرب وموقفه هو بالضرورة منحاز إلى روسيا (ومتواطئ معها). وفضلاً عن هذه الفكرة خاطئة، فإنها في أصلها تصدر عن تأثر بالمركزية الغربية يقوم على الاعتقاد بأنّ الغرب لديه الشرعية الحصرية في تعريف ما هو حقّ.
وكي يعطى هذا التفسير حجيّة أقوى، استدعيت الشراكة الإستراتيجية الموقعة بين الجزائر وروسيا عام 2001 وصفقة التسليح التي أبرماها سنة 2006، وجرى الخوض أيضاً في تاريخية العلاقات بين الجزائر والاتحاد السوفياتي ليكتمل بناء السردية التي تحاول تصوير الجزائر بصفتها “متحالفاً” مع روسيا ضدّ أوكرانيا وضدّ الغرب. والمفزع أنّ بعض الأكاديميين والإعلامين الجزائريين وقعوا في شراك هذه السردية غير البريئة وروّجوا لها!
لقد بلغ التمادي في الترويج لهذه السردية حدّ محاولة استغلالها من النائبة الجمهورية في الكونغرس الأميركي ليزا ماكلين مع 27 نائباً آخرين، للمطالبة بفرض عقوبات أميركية على الجزائر بموجب قانون “كاتسا” (CAATSA)، وذلك في رسالة وجّهوها إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في تشرين الأول/أكتوبر 2022.
هذا المطلب كان قد سبق ماكلين إليه نائب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ ماركو روبيو، الذي دعا في أيلول/سبتمبر 2022 إلى فرض عقوبات على الجزائر بداعي مشترياتها من الأسلحة الروسية.
لقد تطلب تغيير هذه الرؤية عدّة اتصالات دبلوماسية مع مسؤولين أميركيين سمحت بشرح الموقف الجزائري وخلفياته. ويبدو أنّ قرار إعادة فتح السفارة الجزائرية في كييف في 26 شباط/فبراير 2023 كان له وقع كبير في تفهّم حياد الجزائر وإبطال تهم الانحياز التي طالتها، بدليل أنّ جوزيب بوريل، مفوّض الاتحاد الأوروبي السامي للشؤون الخارجية والأمنية، وفي زيارته إلى الجزائر العاصمة في 13 آذار/مارس الماضي، دعا الجزائر إلى القيام بوساطة دبلوماسية بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب التي أنهكت القارة العجوز، وهي دعوة أتت في إثر تلقي الاتحاد الأوروبي خبر إعادة فتح الجزائر سفارتها في كييف.
في مقابل هذه السردية التي تصوّر الجزائر موالية لروسيا، يعمد رأي آخر إلى رؤية علاقة الجزائر بالقوى الغربية -الأطلسية كأنها مناظرة لعلاقتها بروسيا والصين، لا لشيء إلا لدرء شبهة التحالف مع الأخيرتين، بل إنّ توجهاً مفرطاً في المكافأة والمساواة بين نمطي العلاقة تلك يصل إلى حدّ جعلهما متطابقين، فلا يقيم أيّ تمييز بينهما أو أي اختلاف.
ولا يستند هذا الطرح، في اعتقادنا، إلا إلى شرح فاقد للتمحيص. لذلك، كإن الإصرار المتواتر في خطاب الجزائر الدبلوماسي على مبدأي الحياد الإيجابي وعدم الانحياز كمحدّدين جوهريين لتفاعلاتها مع حركية الاستقطاب العالمية التي تخبو حينا وتتأجّج أحايين أخرى.
وعلاوةً على كونه لا يقيم اعتباراً للتورية في اللغة الدبلوماسية لصنّاع القرار الجزائريين في توصيفهم علاقات الجزائر الخارجية، فإنّ الطرح السابق يصدر عن فهم قاصر لتعريف الجزائر للحياد، فلا يعني الأخير البتة تعطيل شراكات الجزائر الإستراتيجية، ولا سيما مع أصدقائها التاريخيين، ولا يمكن البتة أن يكون مدعاة للمساواة بين كل علاقات الجزائر مع أقطاب المنظومة الدولية.
إنّ نفي موالاة الجزائر لروسيا (أو الصين) لا ينبغي أن يقود إلى نفي الطابع الإستراتيجي لعلاقاتهما، ومن دون التحرّج من الإفصاح عن هذا، ذلك أنّ الشراكة الإستراتيجية بين الجزائر وروسيا أو بين الجزائر والصين لا تعزى إلى تقارب أيديولوجي. ولو كان هذا صحيحاً، لما رأينا شراكة إستراتيجية بين الجزائر وإيطاليا التي لن يحصل خلاف حول انتمائها إلى الغرب.
في النتيجة، إنّ ما يعطي خصوصية لعلاقات الجزائر مع روسيا والصين ويضفي عليها طابعاً إستراتيجياً هو تبنيها رؤية تعديلية مراجعة للمنظومة العالمية ورفضها الهيمنة وبناها ومؤسساتها التي تجعل الدول الغربية ومصالحها أسمى وأولى بالتحقيق، ولو على حساب باقي شعوب العالم.
ومن المعلوم أنّ الجزائر كانت سباقة إلى تبني هذه الفكرة حين دعت على لسان الرئيس الراحل هواري بومدين في خطابه الشهير أمام الجمعية العامة الاستثنائية للأمم المتحدة في نيسان/أبريل 1974 إلى إعادة بناء نظام اقتصادي عالمي جديد يحدث قطيعة مع استغلال الدول الفقيرة ونهب مواردها.
هذه الفكرة الجوهرية التي تؤسس للتقارب الجزائري الروسي والجزائري الصيني، في اعتقادنا، ناهيك بعوامل أخرى من طبيعة تاريخية وسياسية، كوَّنت علاقة من الثقة والاحترام المتبادل والندية بين الجزائر وشركائها، وهي الفكرة ذاتها التي نجدها متبناة في نصوص منظمة البريكس وبياناتها منذ لحظة إنشائها سنة 2009، فكانت بذلك النقطة التي التقت فيها التصورات الجزائرية مع فلسلفة هذه المنظمة وأهدافها. ولا غرابة بعد هذا بأن نجد الانضمام إلى البريكس واحداً من الأولويات الإستراتيجية للدولة الجزائرية سنة 2023.