الجذور الحضارية ـ التاريخية للثورة الايرانية
موقع العهد الإخباري-
جورج حداد:
تعتبر الثورة الإسلامية الإيرانية، الى جانب الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، والثورتين الروسية والصينية في النصف الأول من القرن العشرين، أعظم الثورات العالمية التي غيرت وتغير وجه العالم ووجهة التاريخ. وهي تعد من بين الثورات الشعبية الكبرى التي حدثت في القرن العشرين من حيث حجم المشاركة الشعبية الواسعة واستمراريتها حتى إسقاط النظام الشاهنشاهي.
وتعمل جوقة الإعلام الإمبريالي والصهيوني للطعن بالثورة الايرانية بتهمتين:
الأولى ـ هي تهمة “اللادمقراطية”.
والثانية ـ هي “تهمة!” الهوية الاسلامية.
وتضع هذه الجوقة الثورة الإسلامية الإيرانية في سلة واحدة مع الحركات “الاسلاموية” التكفيرية الإرهابية، كـ”القاعدة” و”داعش” وأخواتهما.
ويقع في هذا المنزلق الفكري أيضًا عدد من الأطراف المنظمة والمثقفين المستقلين اليساريين والتقدميين.
ومنذ اليوم الأول لانتصار الثورة، واجهت العداء الشديد من قبل الجبهة الامبريالية ـ الصهيونية ـ الرجعية العالمية. وقد شُنت الحرب الصدامية ضد ايران في ايلول 1980 بدعم وتمويل تلك الجبهة. وحصل النظام الصدامي في تلك الحرب الظالمة على دعم البيروقراطية السوفياتية ايضًا، التي كانت تتجه الى الكشف عن وجهها الحقيقي واسقاط النظام السوفياتي من الداخل، والالتحاق على المكشوف بركب الامبريالية الغربية والصهيونية العالمية، ضد المصالح القومية للشعب الروسي والشعوب السوفياتية السابقة الأخرى.
وفي 1985 و 1986 عملت الامبريالية الأميركية و”اسرائيل” على الاستفادة من الظروف الصعبة جدًا لإيران، بسبب الحرب العراقية المفروضة عليها، لاستمالتها وايقاعها من جديد في حبائل السياسة الامبريالية.
وخلال أكثر من الأربعين سنة الماضية، منذ انتصار الثورة، واجهت ايران أقسى ظروف المقاطعة والعداء والتشهير والعزل والعقوبات الاقتصادية ومساعي التجويع والتهديدات والعدوان والمؤامرات، الداخلية والخارجية، من قبل الدول الامبريالية الاميركية والغربية والرجعية العربية والاسلامية. ولكنها ـ وبالرغم من كل الصعوبات التي واجهتها ولا تزال تواجهها ـ صمدت بوجه جميع الاعاصير، وانتصرت عليها، ووطدت النظام السياسي الثوري، وكرست الالتفاف الجماهيري حول الثورة، وأجرت عشرات الانتخابات النيابية والرئاسية وغيرها. ومؤخرا جرى انتخاب الرئيس الايراني الثامن للجمهورية الاسلامية الايرانية، “المحافظ” السيد ابرهيم رئيسي، الذي انتخب خلفا للرئيس “الاصلاحي” الشيخ حسن روحاني، الذي دامت رئاسته ثماني سنوات منذ 2013. ووطدت ايران الثورة وضعها الاقتصادي، وقامت بثورة حقيقية على الجبهة الثقافية والتعليمية والعلمية، وطورت بشكل مذهل صناعتها التسليحية وقدراتها الدفاعية، ولا سيما الصاروخية، وطورت بشكل خاص صناعتها النووية السلمية، مما قضّ تمامًا مضاجع أميركا و”اسرائيل” وكل الجبهة الإمبريالية ـ الصهيونية ـ الرجعية المعادية، التي ترتعد فرائصها من تطوير البرنامج النووي الايراني لسببين:
الاول ـ الخوف من تحقيق ثورة علمية ـ انتاجية جديدة لايران (في انتاج غير محدود للطاقة الكهرونووية الرخيصة جدا، وتطوير الصناعة، والزراعة، والخدمات والبنى التحتية).
والثاني ـ احتمال امتلاك ايران للسلاح النووي. ومع أن القيادة الثورية الايرانية أعلنت مرارًا وتكرارًا أن ايران لا يمكن أن تعمل لامتلاك سلاح الدمار الشامل النووي، لدواع انسانية ودينية شرعية بالذات، الا أن الجبهة المعادية تخشى أن تعمد ايران الثورة الى صنع وامتلاك الأسلحة النووية “التاكتيكية” و”الصغيرة” (التي لا ينطبق عليها توصيف “اسلحة الدمار الشامل”)، كالطوربيدات والصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى التي تحمل شحنات نووية صغيرة، والقادرة على تدمير حاملات الطائرات الأميركية العملاقة، والسفن والطائرات الحربية، والقواعد والمواقع العسكرية، والوحدات المعادية في المعارك المحدودة، وكذلك صواريخ الكورنيت المضادة للدروع ومقذوفات الآر بي جي، وحتى العبوات والقنابل اليدوية الفردية، التي يمكن أن يحملها ويستخدمها مقاتلو المدن الفرادى.
وهذا الرعب الامبريالي الاميركي ـ الغربي، هو الذي أجبر الكتلة الغربية على توقيع الاتفاق النووي مع ايران سنة 2015، مقابل رفع جميع العقوبات الاقتصادية الاميركية والغربية عنها. وقد انسحبت ادارة ترامب الأميركية من الاتفاق في 2018، لخشيتها من أن رفع العقوبات عن ايران سيؤدي الى طفرة غير مسبوقة في التطور العلمي والتكنولوجي المتطور والانتاجي الايراني. ولكن الادارة الاميركية الحالية تعود صاغرة للتفاوض حول عودتها الى هذا الاتفاق، بعد أن تأكدت أن كل سياسة المقاطعة والعقوبات والحصار ضد ايران تأتي بنتائج معاكسة.
وخلال الأربعين سنة الماضية، وبدلًا من إضعافها وعزلها وخنقها، وبفضل حكمة وحزم قيادتها، ووعي ووحدة واقتدار جماهير الشعب الايراني العظيم، نجحت ايران الثورة في كسر أغلال العقوبات والمقاطعة والحصار، وأقامت علاقات وثيقة، علمية وثقافية ومالية واقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية، مع الجبارين الروسي والصيني، وذلك بالرغم من جميع الاختلافات القومية والدينية والايديولوجية والسياسية. وبدلًا من الشعار القديم “لا شرقية ولا غربية!” الذي تغيرت ظروفه وولى زمانه، اتجهت ايران الثورة بحزم نحو التحول الى قوة اقليمية وعالمية كبرى تساهم في بناء “المحور الشرقي الجديد” (ونواته: روسيا والصين وايران) الذي يتقدم بثبات نحو تقويض الهيمنة الامبريالية الاميركية ـ اليهودية على العالم، وبناء نظام عالمي جديد، متحرر من الاستعمار والحروب الاستعمارية، ومتعدد الأقطاب والحضارات والأنظمة السياسية ـ الاجتماعية، التحررية والدمقراطية.
والسؤال التاريخي ـ الحضاري ـ العالمي الان، الذي ينبغي ايجاد الجواب عليه هو: كيف أمكن للثورة الايرانية، ذات الطابع الاسلامي الشيعي، ان تتقدم لاحتلال هذه المكانة العالمية الشاملة؟
إن المحللين السطحيين، من اليساريين وغيرهم، يعجزون عن الجواب عن هذا السؤال، لأنهم ينظرون الى الثورة الايرانية فقط من زاوية طابعها الشيعي. ولا شك أن القيادة الإيرانية تتمسك بخصوصيتها الشيعية الثورية، ولكن هذا لا يعني أبدًا ــ على سبيل المثال ــ أن ايران حينما تتبنى القضية الفلسطينية كقضيتها الخاصة، تعرض التشيّع على الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وبالمثل، حينما ترفع ايران الثورة لواء مواجهة الامبريالية الاميركية وتشكيل “الحلف الشرقي الجديد” مع روسيا والصين، فهي لا تعرض التشيع على العالم العربي والاسلامي، أو على روسيا والصين.
والمنطق العلمي يقودنا الى الاستنتاج:
اولا ـ أن الثورة الاسلامية الايرانية لا يمكن حصرها في الاطار الطائفي الضيق للاختلاف المذهبي الاسلامي، بل هي تنطلق من رؤية اوسع بكثير من النظرة المذهبية الضيقة، وهي استطاعت أن تتقدم لاحتلال هذه المكانة الثورية العالمية، لأنها تنطلق من رؤية تحررية ـ وطنية ـ اجتماعية ـ دينية ـ انسانية واممية شاملة.
ثانيا ـ ان الثورة الاسلامية الايرانية هي وريثة كل التاريخ الحضاري لايران منذ الوف السنين.
وفي هذا السياق يتوجب على كل باحث تاريخي، ومحلل سياسي وديني وفلسفي وايديولوجي، ان يأخذ في الاعتبار المعطيات التاريخية التالية:
ـ1ـ قبل مئات السنين من التاريخ الميلادي نشأت الامبراطورية الفارسية القديمة التي ضمت: ايران اليوم، العراق، كامل شواطئ الخليج العربي ــ الفارسي، اليمن، سوريا الطبيعية، مصر، اجزاء من ارمينيا والقوقاز، الاجزاء الشرقية من تركيا (آسيا الصغرى)، اليونان، افغانستان واجزاء من الهند القديمة، اي انها شملت جميع الاراضي التي ولدت فيها الحضارات الشرقية القديمة (المصرية، الفينيقية، الاشورية، الاغريقية، الفارسية، الهندية وغيرها) التي شكلت الاساس والمنطلق للحضارة الانسانية جمعاء، قديما وحديثا.
وبصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي الامبراطوري، للدولة الفارسية القديمة، ففي هذا الفضاء الحضاري ـ الاممي الواسع، اضطلعت النخبة المتنورة والمثقفة الفارسية القديمة بدور همزة وصل ومُعامل تعارف متبادل وتلاقح وتفاعل بين حضارات جميع تلك الشعوب العريقة.
ـ2ـ وبعد معركة إيسوس في تشرين الثاني 333 ق.م، التي انتصر فيها الاسكندر الاكبر المقدوني (الاغريقي) على داريوس ملك الفرس، تقول الاسطورة التاريخية ان الاسكندر أمر قواده بالزواج من الاميرات الفارسيات. وترمز هذه الاسطورة الى نزعة الانفتاح والتفاعل الحضاري بين الاغريق وشعوب الشرق العريقة. ومنذ تلك المرحلة، وحتى الغزو الروماني الاستعبادي الهمجي وما بعده للشرق، نشأت الحضارة الهلنستية العظيمة (الاغريقية ـ الشرقية) في اراضي الامبراطورية الفارسية القديمة، اضافة الى البانيا والبلقان وجنوب فرنسا وجنوب شرق اسبانيا وجنوب اوكرانيا الروسية القديمة واذربيجان وشرق ليبيا واجزاء كبيرة من الهند واسيا. وكانت بلاد فارس ركنا اساسيا في نشوء وبلورة وتطوير الحضارة الهلنستية، التي قامت بدور جسر عبور من الحضارات القديمة الى حضارة القرون الوسطى فالحديثة.
ـ3ـ وقبل وبعد ظهور الديانات التوحيدية الشرقية المنشأ (اليهودية والمسيحية والاسلام) قدمت بلاد فارس عدة اديان ومذاهب وحركات اجتماعية وثورية مرتبطة بها، ومنها:
ــ الزرادشتية
ــ المانوية
ــ الخرمية
ــ المزدكية
ــ البابكية
ــ الثنوية او الثنائية
وبصرف النظر عن الرأي الديني البحت فيها، تقول الدراسات التاريخية ان هذه الديانات والمذاهب والحركات قد طرحت في حينها الافكار الدينية والفلسفية والاجتماعية والاخلاقية حول مفاهيم: التوحيد، والبعث، والجنة والنار، وفكرة الفادي والمخلص؛ وحول ثنائية: الاله والشيطان، الخير والشر، الروح والمادَّة، النور والظلمة، العدل والظلم، الاخلاق الحميدة والقبيحة، الفضيلة والرذيلة الخ.
وتقول بعض الدراسات: ان المزدكية هي أول ظاهرة اشتراكية في تاريخ البشريّة من خلال تركيزها على الملكيّة المجتمعيّة والعمل المجتمعي مع التوزيع المجتمعي للفوائد المتراكمة للعمل. وتقول ايضا: إنّ مجتمعات قليلة من المزدكيّين استمرت لقرون بعد الفتوحات الإسلاميّة لبلاد فارس، واختلطت مذاهبهم مع بعض التيّارات الرّاديكاليّة للإسلام الشّيعي.
ـ4ـ من المتعارف عليه الدور التاريخي الكبير للعلماء الفرس في بناء وتطوير الحضارة العربية الاسلامية، في جميع حقول العلم الدينية والفلسفية والادب والموسيقى والاخلاقيات والرياضيات والفلك والهندسة والطب وغيرها، الى جانب الأعلام الاشوريين والسريان والمصريين القدماء.
وتذكر موسوعة ويكيبيديا الالكترونية لائحة بأسماء بعض أولئك العلماء الفرس وهم: أبو حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين، أبو قاسم الفردوسي، إبراهيم الفزاري، أبو حنيفة الدينوري، أبو الريحان البيروني، أبو بكر البيهقي، أبو سعيد الجرجاني، أبو سعيد عبيد الله بن بختيشوع، أبو سعيد الجرديزي، أبو الوفاء البوزجاني، ابن الهيثم، أبو جعفر الخازن، ابن سينا، أبو معشر البلخي، أبو زيد البلخي، أحمد بن كثير الفرغاني، أبو نصر محمد الفارابي، بختيشوع، البغوي، البلاذري، جابر بن حيان، جبريل بن بختيشوع، خالد بن برمك، قطب الدين الشيرازي (علامة وشاعر عمل في مجالات علم الفلك والرياضيات والطب والفيزياء ونظرية الموسيقى والفلسفة والصوفية)، شرف الدين الطوسي، عبد الله بن المقفع، عضد الدولة، عبد الرحمن بن عمر الصوفي، عبد الله الجوادي الآملي، عبد العلي البيرجندي، غياث الدين الكاشي، الفيض الكاشاني، كمال الدين الفارسي، محمد الفزاري، منصور بن عراق، محمد عوفي، محمد بن إسماعيل البخاري، نصير الدين الطوسي، رشيد الدين فضل الله الهمذاني، الوحيد البهبهاني، ويوحنا بن بختيشوع.
ـ5ـ يرى بعض المحللين ضيقي الأفق أن التشيع ليس أكثر من مذهب ديني سكوني أو متحجر، ومن ثم ان نظام الحكم الاسلامي في ايران ليس اكثر من نظام حكم اكليروسي ـ ثيوقراطي استبدادي متحجر. ولكن التحليل العلمي الموضوعي يقودنا الى الاعتراف والنظر في ان التشيع لم يكن تاريخيا حالة مذهبية سكونية منغلقة ومتحجرة، بل كان يمثل ابرز تيار ديني وفكري وفلسفي واخلاقي، اصلاحي، تغييري، تجديدي وثوري في الحالة الاسلامية العامة. وفي القرون الوسطى، التي بدأت فيها مرحلة الانحطاط الحضاري في الدولة العربية الاسلامية القديمة، اضطلع التشيع بدور فصيلة الصدام الطليعية ضد نظم الاستبداد الانحطاطي المتتالي: الايوبي فالمملوكي فالعثماني، طوال تلك المرحلة الظلامية.
هذه هي، بإيجاز وتعميم كبيرين، المصادر او المنابع الحضارية التاريخية، شديدة التعدد والتنوع والغنى، الدينية والفلسفية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاخلاقية، التي تستقي منها وتتبلور وتتطور في اطارها الثورة الاسلامية الايرانية، والتي تدفعها للتقدم بخطى ثابتة نحو تعزيز دورها ليس فقط في التغيير الجذري للوضعية الجيوستراتيجية لمنطقة الشرق الاوسط الكبير والعالم العربي والاسلامي، بل ونحو المساهمة النوعية الكبرى، الى جانب روسيا والصين، في النضال لاجل تحرير جميع شعوب العالم من نظام الهيمنة الامبريالية الاميركية اليهودية، وفي تجديد واعادة بناء النظام العالمي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل