التلاقيات في مسارها التصاعدي
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
لم يكن الاجتماع الافتراضي الحاصل عبر تقنية «الفيديو كونفراس» بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، الثلاثاء الماضي، سوى خطوة متقدمة في سياق التلاقيات الحاصلة بين الطرفين تجاه الملف السوري، فالتلاقيات من هذا النوع، ما انفكت تتعالى وتيرتها منذ أن التقى الرئيسان في جنيف 16 حزيران الماضي، ومن الراجح أن هذا اللقاء سابق الذكر كان قد أفضى إلى توافق على درجة عالية من الأهمية، ومفاده تحييد الملف السوري عن التداعيات التي يمكن أن تنشأ بفعل الخلافات الضاربة بجذورها عميقاً بين موسكو وواشنطن، وهي تبدأ بقضايا الصراع الإستراتيجي شديدة الحساسية لكليهما، ولا تنتهي بالخلافات القائمة حول العديد من البؤر الساخنة على امتداد هذا العالم.
لقاء جنيف سابق الذكر أفضى إلى توافق 9 تموز الذي أراد له الروس أن يكون مرحلياً، بمعنى أنه جاء محدداً بزمن الأشهر الستة التي كانت تحت سقف الآمال الأميركية، حيث التطورات التي ستقع بين الحد الأول، أي 9 تموز، والحد الثاني الذي سيحل موعده قبيل 9 كانون الثاني المقبل، ستكون محددة بدرجة كبيرة لما ستشهده قاعة مجلس الأمن في هذا التاريخ الأخير، ففيه، أو في يوم أو يومين سابقين له، سيعقد هذا الأخير جلسة للتصويت على القرار 2585 القاضي بتمديد إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية.
ومن خلال المفاصل التي مر بها التقارب الروسي الأميركي خلال الأشهر الخمسة المنصرمة التي تلت قمة جنيف، والتي اعتراها بعض من التوتر تجاه مسائل خلافية كان أبرزها الملف الأوكراني الذي ازدادت سخونته مؤخراً على وقع صدور العديد من التقارير الاستخباراتية الغربية التي تشير كلها إلى غزو روسي وشيك لأوكرانيا، يمكن القول إن ذلك التقارب كان قد شهد في غضون الشهرين الماضيين محطتين مهمتين ومثلهما الاجتماعان الحاصلان في جنيف، بفاصل بينهما يزيد على الشهر، بين مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك وبين مساعد وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، والمؤكد هو أن الاجتماعين كانا قد حققا نجاحاً في إيجاد تقارب بين الطرفين حول مناطق شرق الفرات، وفي توحيد المواقف تجاه رفض أي عمل عسكري يمكن لأنقرة أن تقوم به ضد مناطق سيطرة «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، حيث أمضت أنقرة الخريف المنصرم وجزءاً من الصيف، وهي تهدد وتحشد لشن هجوم عسكري كان هدفه المعلن إبعاد «قسد» عن الحدود التركية بعمق 30 كم على امتداد المنطقة الواقعة بين الدرباسية والمالكية.
جاءت قمة بوتين – بايدن تتويجاً لهذا المسار الذي يمكن القول إن واشنطن ماضية فيه نحو تقديم تنازلات واضحة للروس، وهي من النوع الكافي لحلحلة المزيد من المعوقات التي تقف بوجه وضع عربة الحل على مسارها الذي يمكن أن يوصل بها إلى نتائج مرضية، ومن حيث النتيجة فإنها، أي واشنطن، تبدي نيات جدية تجاه تسليم الملف السوري لموسكو من بابه إلى محرابه وفق محددات يبدو أن العديد منها قد جرى التوافق نحوه، وعليه فإن الصورة التي ترسمها التوافقات الأميركية الروسية بعيد قمة الثلاثاء المنصرم، يمكن رسمها على الشكل التالي:
توافق تام على إدارة الملف الإنساني في سورية، ومن الراجح أن القرار 2585 سوف يجري تمديده لستة أشهر أخرى تنتهي في 9 آب المقبل، توافق تام على ردع أي عمل عسكري تركي يمكن لأنقرة أن تقوم به ضد مناطق شرق الفرات السوري، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية أن يذهب النظام التركي نحو القيام بعمل من هذا النوع خارج المظلتين الروسية والأميركية لدواع داخلية، كنوع من الهروب إلى الأمام بوجه الأزمة الاقتصادية، وكذا كمحاولة لتعزيز شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تقول آخر الاستطلاعات إنه يحظى بتأييد 37 بالمئة فقط من الناخبين الأتراك، وبهذه الحالة فإن التوافق الروسي الأميركي سيكون كفيلاً لأن ترتد مغامرة كهذه على غاياتها في حال حدوثها، ثم توافق ثالث تمضي واشنطن من خلاله نحو تخفيف العقوبات المفروضة على سورية بموجب «قانون قيصر» الذي شهد عبر محطات ثلاث تهتكاً وازناً في نسيجه، والأمر كان قد ظهر مؤخراً بشكل صارخ عبر البيان الختامي الذي أعقب اجتماع حلفاء واشنطن الأوروبيين في بروكسل يومي 1 و2 من شهر كانون الأول الجاري، حيث تشير تقارير إلى أن الأميركيين كانوا قد أرخوا بثقلهم لتخفيف اللهجة التي أراد الأوروبيون لبيانهم أن يرفع من وتيرتها تجاه الأزمة السورية، وما جرى هو أن الأميركيين استطاعوا الخروج ببيان «مرن» يفهم من عباراته أن التشدد الأوروبي مؤقت، بمعنى أنه يقف بانتظار خطوات تتلاقى معه في منتصف الطريق لكي تزول عنه صفة التشدد التي أراد الظهور بها.
كتكثيف لما سبق يمكن القول إن واشنطن تمر اليوم بمرحلة تحول إستراتيجي تجاه الأزمة السورية، وهو ذو طيف واسع يطول النظرة التي تبنتها تجاه تلك الأزمة على امتداد سنيها العشر المنصرمة، ويصل في حدوده البعيدة إلى انقلاب في الرؤية تجاه الحلول المفترضة لها، وهذا يشكل أساساً مهماً من النوع الذي يمكن البناء عليه، إذ لطالما كان من الثابت أن لا حل ممكناً للأزمة السورية من دون أن يكون ذلك الحل «مرضياً» للولايات المتحدة الأميركية، التي وإن كانت انفراديتها بالهيمنة العالمية قد اهتزت على امتداد العقد الماضي، إلا أن ولادة نظام عالمي بديل لا يزال يحتاج لوقت طويل كما يبدو، ولربما كانت غرف صناعة القرار في واشنطن تدرك أن مواجهة مفترضة مع طهران يمكن لها أن تعجل في ولادة ذلك النظام، الأمر الذي يرجح، ولربما يحتم، عدم حصول تلك المواجهة التي ستكون، فيما لو حصلت، كما حرب السويس 1956، التي قادت نحو أفول شمس الإمبراطورية البريطانية ونظيرتها الفرنسية.