التضييق على فرنسا جزء من الضغط الأميركي على الإتحاد الأوروبي
صحيفة الوفاق الإيرانية-
عبير بسّام:
خطوة سحب عقد بناء الغواصات النووية بقيمة 100 مليون دولار من يد فرنسا يعد اجراءً أميركيا ذا دلالات كبيرة.
هذا التطور جاء في وقت ترى فيه الولايات المتحدة أن الحليف الأوروبي يتجه رويداً رويداً نحو العلاقة المتكاملة مع روسيا كجزء من المنطقة، وخاصة لصالح تزويدها بالغاز الروسي لإستمرار الحياة فيها. لذا كان على أميركا أن تشغل الحليف الأوروبي بعدد من الصدمات القاتلة. وعليه فقد بات لزاماً على الأمريكي استرداد زمام الأمور والبدء بدعم حلفائه بوجه عدو أمريكا الأول اليوم، ألا وهي الصين. الأمور معقدة ومتشابكة، وخيبات الأمل الفرنسية تتراكم، خاصة وأن الفرنسيين اليوم في وضع اقتصادي أسوأ بكثير مما كانوا عليه منذ عامين.
سحب العقد الأميركي لم يكن بداية الخيبات الفرنسية، فما تتم صناعته في أمريكا اليوم يصب في مصلحتها أولاً، وهو يتعلق بنهوضها الاقتصادي وخاصة بعد التراجع الكبير الذي منيت به أمام الصين وبسبب تداعيات انتشار الوباء وإغلاق البلاد، حيث قوضت الجائحة اقتصاد العالم الغربي وأميركا بأكثر مما أتت نتائجه قاسية على كل من الصين وروسيا. ويبدو أن أمريكا ترى في قرارها دعماً شعبياً محلياً لها يتعلق بمصالح الحزب الديمقراطي الانتخابية. فالانتخابات النصفية القادمة في أمريكا في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ستقرر مصير الحزب وحظوظه في الوصول إلى سدة الرئاسة الأميركية لأربع سنوات جديدة. اذاً الأمر يتعلق بقوة الحزب الديمقراطي وقدرته على تنفيذ المشاريع التي وعد بها خلال الحملة الانتخابية، لأنه إذا ما بات الجمهوريون أغلبية في الكونجرس ومجلس الشيوخ، فإنهم سيعملون على عرقلة هذه المشاريع بالتأكيد.
أولوية أمريكا اليوم هي في الصين، ولذا يقع على عاتقها إعادة ترتيب أمورها فيما يتعلق بالمنطقة الواقعة في الجزء الجنوبي من العالم. لذا، فمحاولة أمريكا التركيز في أولوياتها ستأتي على حساب الحلفاء القدماء في “اسرائيل” وأوروبا على حد سواء. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن لأمريكا أن تعزل نفسها عن الحليف الأول لها، والذي يعد امتدادها الإستراتيجي في أوروبا، والذي تتكامل معه سياساتها المخابراتية والأمنية، ألا وهي بريطانيا. وما تمخض عنه مؤتمر غلاسكو حول المناخ، والذي حاول وضع الصين على نفس القدر من المسؤولية تجاه الاحتباس الحراري العالمي كما سائر القوى الصناعية الغربية ودفعها نحو اغلاق معاملها ومنشآتها، التي تعمل على الفحم الحجري، يقع في هذا الإطار. وبما أن أولوية أمريكا تقع في هذا الإطار فيجب أن ينتظر الفرنسيون دورهم قبل أن تتولاهم أمريكا بنعمها الاستثمارية والصناعية.
وضمن هذه الحرب الأميركية المسعورة ضد الصين، وبكل معنى الكلمة، جاء إلغاء عقد تصنيع الغواصات الفرنسية، لأن هذا سيقوي التحالفات مع استراليا، التي لم تعد تستفيد من العلاقة مع الأميركيين علماً أنها تقوم بتزويدها بالرجال خلال حروبها المتلاحقة، في أفغانستان والعراق وسوريا. وبالتالي تأمل أمريكا بأن تتمكن من دعم حلفائها في القوة الرباعية التي أنشأتها حول الصين، والتي تتألف من استراليا وأمريكا والهند واليابان وتعتبر قوة دعم كبير لحلف “الناتو” .
الاستثمار الآخر الهام الذي تضع الولايات المتحدة أمامه العراقيل في وجه فرنسا هو إعادة بناء مرفأ بيروت والتنقيب في حقول الغاز في لبنان لمصلحة “اسرائيل”، لأن للولايات المتحدة مآرب وخططا محددة في هذا الاتجاه. لكن هذه العرقلة تأتي في وقت تحتاج فيه فرنسا للانطلاق والعمل ولو خارج حدودها لإنقاذ اقتصادها المتداعي. وأما في داخل حدودها فجاءت قضية عرقلة عمل الصيادين الفرنسيين وحبس التراخيص البريطانية عنهم، والتي كانت التزمت بريطانيا بإعطائها من خلال اتفاقية الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، المعروف بـ “BREXIT”. هذه الحرب الجديدة على فرنسا، تأتي في وقت تحاول فيه أمريكا الضغط على دول الاتحاد لعرقلة تقدمه واستقلاليته وخاصة عندما بانت في الأفق المحاولات من أجل بناء جيش أوروبي مستقل عن الناتو برغبة ودفع ألماني- فرنسي. فامريكا لن تسمح للاتحاد الأوروبي بإنشاء قوة مستقلة عن الإرادة الأميركية وعن الناتو، لأنها بذلك ستفقد السيطرة العسكرية على أوروبا.
خلال قمة العشرين التي أقيمت في إيطاليا مؤخراً، كان هناك اجتماع بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. وظهر فيه بايدن وهو يلف ذراعه فوق كتف ماكرون ويوجهه نحو الدخول إلى القاعة للبدأ بجلسة خاصة بين الرجلين على هامش القمة، في محاولة لحلحلة الأمور. حركة أظهرت وكأن فرنسا تحت الوصاية والحماية الأميركية، وأن الولايات المتحدة ما تزال تضع إحدى أهم دولتين في أوروبا وهما ألمانيا وفرنسا تحت جناحيها. حركة تتضمن دلالات كبيرة على المنحى الأبوي الذي اختص به الجد بايدن ابنه أو حفيده ماكرون. حركة فيها معانٍ كثيرة ويبدو أن فرنسا قد تم اقناعها بالتخلي عن محاولاتها بناء قوتها البحرية في وجه أهم قوة بحرية في اوروبا، بريطانيا، وخاصة بعد التهديدات التي ساقتها فرنسا ضد بريطانيا حول السيطرة على بحر المانش وتقويض عمل الصيادين البريطانيين فيه، وتمرير المهاجرين إلى بريطانيا.
ولا يمكننا في هذه المرحلة، إلا تبين محنة فرنسية وحتى أوروبية متنامية، وبالتالي فإن أزمة المهاجرين المفتعلة بين بولندا وروسيا البيضاء، ومحاولة ربطها باختلاق نزاع يهدد بالحرب بين روسيا وأوروبا، وفرض عقوبات جديدة على روسيا البيضاء، ليست إلا جزءاً مما تحاول أمريكا تحقيقه من تصعيد للأزمات، حيث بلغت أزمة اللاجئين أشدها في أوروبا، اذ أعلنت في كلٍّ من الدانمارك وألمانيا النية بعدم تجديد إقامات المهاجرين السوريين ووجوب مغادرتهم، لأن سوريا باتت آمنة. أزمة ترتبط بتمرير المهاجرين القادمين من الحدود الشمالية السورية إلى تركيا، التي باعت فيها الأخيرة أوروبا موقفاً بمنع اللاجئين من الجنسيات السورية واليمنية والليبية من السفر جواً إلى روسيا. فهل تمخضت محادثات الدول العشرين موقفاً من أجل الضغط على روسيا إلى جانب الصين، الدولتين اللتين غابتا عن هذه القمة، لدفعهما للتنازل عن مصالح ونفوذ لهما في سوريا وليبيا. كل ذلك جاء متزامناً مع قمة العشرين وقمة غلاسكو للمناخ والأزمة الفرنسية – البريطانية، ولم يعد على فرنسا سوى الانتظار.