التحوّل الأفريقي: فصل أول في صياغة النظام العالمي الجديد
جريدة البناء اللبنانية-
نمر أبي ديب:
«لحظات تاريخية» بلغتها «النيجر» ومعها أفريقيا تمثلت في سحب السفير الفرنسي وإعلان إيمانويل ماكرون عن (مغادرة القوات الفرنسية النيجر قبل نهاية العام)، تطور استثنائي بلغه «المشهد الأفريقي» بغضّ النظر عن ضوابط المرحلة، وسقف الاشتباك العالمي القائم اليوم على أكثر من جغرافيا دولية وجبهة سياسية وعسكرية واقتصادية، ما يؤشر إلى بداية تحوّل وجودي لم يكتمل بعد، وأيضاً إلى نتائج استراتيجية قابلة للتغيير وأيضاً للتعديل، انطلاقاً من تمدّد الاشتباك العالمي ونتائجه الظرفية والاستراتيجية، مروراً بسقف المصلحة العالمية التي شكَّل انحسارها في أكثر من «قارة وجبهة»، محطة مفصلية لكثير من الدول الأساسية وفي مقدّمتهم فرنسا النشطة على خط «الأزمة اللبنانية»، ما يؤكد على فرضية الاستثمار العالمي في بعض جوانب الفوضى الهادفة إلى صياغة قواعد اشتباك جديدة، إضافة إلى خطوط فصل استراتيجية ملزمة في السياسة الدولية كما الأمنين العسكري والاقتصادي لقوى أساسية دخلت مع تطورات الساحة الأفريقية مرحلة «انكماش سياسي» يفترض أن تبلغ «مفاعيلها السلبية» لاحقاً مجمل ميادين المواجهة العالمية، التي دخلت بفعل «الحروب المُعَلَّبَة»، وتقاسم النفوذ مرحلة مراوحة استراتيجية قابلها تكيّف عالمي تحديداً «أوروبي»، مع أمر واقع مؤجَّل فرضته روسيا في أوكرانيا، واليوم مع أمر واقع انقلابي فرضته النيجر عسكرياً حتى سياسياً على مُجمل الدول المعنية في صياغة وتشكيل وتثبيت النظام العالمي الجديد.
السؤال اليوم يتمحور حول البدائل التي يمكن أن توفر «لفرنسا» أولاً، ومن ورائها «الولايات المتحدة الأميركية» نقص الموارد الوجودية التي كانت تقدّمها النيجر تحت سقف «شريان حياة» للدولة الفرنسية؟ السؤال يتمحور أيضاً حول الدول البديلة، التي يمكن استثمارها فرنسياً في زمن مختلف قد لا تجد فيه فرنسا نيجر ثانية، لسد العجز الاستراتيجي الناجم في حده الأدنى عن عودة مقدرات النيجر وثرواته الطبيعية إلى دولة النيجر نفسها.
قدَّم المشهد الأفريقي من زوايا مختلفة صورة أولية لما يمكن أن يكون عليه النظام العالمي الجديد، الذي تأبى على مساره الدول الكبرى التفريط في مكتسباتها، تحت سقف الضغط السياسي وتطورات الميادين الملتهبة في أوكرانيا وغيرها من دول المواجهة الدولية والشرق أوسطية.
لا شك أنّ «الانقلاب الفصل» الذي شهدته النيجر أعاد بشكل أو بآخر ترتيب الأولويات الدولية على قاعدة، مع تغيير الدول لا شيء ثابتاً أو دائماً، كما لا شيء نهائياً خصوصاً في لعبة المحاور العالمية ومساحات النفوذ الاقليمي والدولي.
أحد أبرز المؤثرات السياسية الظاهرة في أبعاد المشهد الأفريقي، تلمس القوى العالمية «مفاعيل النتيجة» القابلة للصرف السياسي داخل البيئة الأفريقية وتثبيت التحوُّل نظراً لوجود البديل الروسي والصيني، القادر على توفير ضمانات البقاء في حدّه الأدنى والشراكة، العوامل التي لم تتوفر في مجمل الصدامات الأخرى وحتى الانقلابات الخاضعة في كثير من الدول لعوامل ضابطة واجتهادات محكومة بنتائج موضعية محددة لسقف التحوُّل، ما قد يطرح العديد من علامات الاستفهام السياسي وأيضاً العديد من المؤشرات الدولية كما الانعكاسات السياسية العسكرية وحتى الأمنية القائمة على فرضيات مختلفة وعناوين عديدة من بينها: الدخول العالمي استثنائياً مراحل السقوط الكامل لـ»دول كبرى وأيضاً عظمى» على مسار الصياغة الجديدة للنظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب والمركزيات المالية لاحقاً، بالتالي هل يختصر المشهد الأفريقي «الفصل الأول» في موسوعة النظام العالمي الجديد؟
أكَّدَت النتيجة المباشرة التي أصابت «فرنسا» تحديداً، نقص المناعة السياسية كما العسكرية لدول الاستعمار العالمي، وأيضاً لدول «العظمة الهشة» القائمة على موارد ومقدرات الآخرين، وسط عدم اكتفاء ذاتي مرفق بعدم وجود البدائل القادرة على سدّ العجز الوجودي بالنسبة لبعض الدول، والجدير في الذكر أنّ استراتيجية حصار الغاز (أيّ حرب الطاقة) التي اعتمدها فلاديمير بوتين في أوروبا كشفت «هشاشة المخزون الأوروبي» أولاً مع عدم توفر البدائل، ما يؤكد على فرضية سقوط العديد من الامبراطوريات الوهمية في مراحل تثبيت «الأهلية الدولية» التي دخلت مع «انقلاب النيجر»، مرحلة الاقرار الضمني غير المعلن لكثير من الدول الأساسية، بحجم العجز في الدرجة الأولى مع عدم توفر فرص وإمكانيات البقاء أو حتى الاستمرارية، خارج إطار الرعاية الدولية التي تضع الدولة المعنية حكماً على قائمة المكونات الدولية الملحقة لا الأساسية.
ما حققه انقلاب النيجر على مستوى النتيجة مقدمة استثنائية للفصل الأول تحت عنوان (صياغة وتثبيت النظام العالمي الجديد)، الذي دخلت من خلاله فرنسا مع دورها الفاعل والمؤثر في السياسة الإقليمية وحتى الدولية مرحلة حرجة بدأت في خسارة القارة الأفريقية والمنطق السياسي يقول مع مُجمل المؤشرات الدولية لم تنتهي أو تتوقف بعد.
انطلاقاً من ما تقدّم ما بعد انقلاب النيجر ليس كما قبله، الأولوية الدولية اختلفت، وسياسة تأمين البدائل بمثابة «نواة ردع استراتيجي» قادر في حدّه الأدنى على توفير سبل الصمود الدولي في زمن المتغيرات العالمية الكبرى.