الإنتصار الذي يليق بدماء الشهداء!
صحيفة الوطن السورية-
د. بسام أبو عبد الله:
من لم يعش سنوات الحرب الدامية والفاشية على سورية، بأيامها الصعبة والعصيبة، وتفاصيلها اليومية، وتحدياتها المختلفة، لن يعرف اليوم معنى التحولات التي تجري في المحيطين الإقليمي والدولي، ولن يفهم أن هذه التحولات لم تأت لأن «عقل الرحمن» هبط على الخصوم والأعداء فجأة، بل أتت نتيجة تضحيات آلاف الشهداء القديسين، وجراح آلاف آخرين مازالوا شهداء أحياء، أتت نتيجة صبر هائل للشعب العربي السوري بكل فئاته وأطيافه، وتحمله، وشجاعته، وقدرته على الفهم الجمعي لحقيقة المشروع المخطط ضد وحدة سورية، ووجودها، والأهم هويتها، وحاملها العروبي، وسياساتها المبدئية تجاه قضايا المنطقة، وعلى رأسها قضية فلسطين، والدعم السوري لحركات المقاومة، والقضايا العالمية العادلة، وفي جوهر كل ذلك الاستقلال الوطني، ورفض كل أشكال التبعية فيما يخص القرار الوطني.
في خطاب الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب بتاريخ 30 آذار 2011 لخص الأمر بالقول: «نحن يهمنا شيء وحيد: المرحلة الأخيرة أن تضعف سورية وتتفتت، وأن تسقط وتزال آخر عقبة من وجه المخطط الإسرائيلي»، وفي موضع آخر في الخطاب نفسه قال: «إن السياسة الخارجية بنيت على أساس التمسك بالحقوق الوطنية، التمسك بالحقوق القومية، الاستقلالية، ودعم المقاومات العربية عندما يكون هناك احتلال، والرابط بين السياستين الداخلية والخارجية، هو المواطن»، وأشار سيادته إلى أن «هاتين السياستين أو محصلتهما كونت حالة من الوحدة الوطنية في سورية غير مسبوقة، كانت السبب أو الطاقة أو الحامي الحقيقي لسورية في المراحل الماضية، وخاصة في السنوات القليلة الماضية، عندما بدأت الضغوط على سورية، وتمكنا من خلالها من القيام بتفكيك ألغام كبيرة جداً كانت موضوعة في وجه السياسة السورية، وأن نحافظ على موقع سورية المحوري، وهذا لم يدفع الأعداء للاطمئنان».
أردت إيراد هذه الاقتباسات من خطاب الرئيس الأسد بداية الحرب للتذكير أن أولئك الذين باعوا ضميرهم، ووجدانهم الوطني كانوا مستعدين للتخلي عن الاستقلال، وخيانة الحقوق الوطنية، وطرد المقاومات، وضرب الوحدة المجتمعية من خلال طروحاتهم المقيتة المذهبية والطائفية والإثنية، والتحول إلى أدوات رخيصة بيد قوى خارجية لتحقيق مصالحها على حساب سيادة البلاد ووحدتها.
أكتب هذا المقال والتحولات تجري بسرعة كبيرة منها:
تطورات ثنائية سورية أردنية في العلاقات بين البلدين، وخطوط الغاز والكهرباء، وفتح الحدود، والتعاون الاقتصادي أو التجاري.
تصريحات مفاجئة لأمين عام الجامعة العربية يهاجم فيها الربيع العربي، ويتحدث عن أهمية دعم الدولة الوطنية العربية، وعن قيام قوى إقليمية بنهش اللحم العربي.
لقاءات وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد في نيويورك التي شملت 22 وزير خارجية، غير اللقاءات السرية التي طلبت الجهات صاحبة اللقاء التكتم بشأنها.
بدء شركات طيران عربية وإقليمية تشغيل رحلاتها إلى مطار دمشق.
الموقف الأميركي المضطر للتراجع عن الكثير من المقاربات تجاه المسألة السورية، وبدء ظهور تفاهمات مع روسيا لإنزال واشنطن عن الشجرة بشكل تدريجي، ومراجعة داخلية للسياسات السابقة، وخاصة بعد الانسحاب الأميركي المر من أفغانستان، والعمل على نقل الثقل الأميركي تجاه المحيط الهادئ لمواجهة الصين، والخروج التدريجي من المنطقة مع إبقاء أدوات النفوذ والتأثير غير المباشرة.
مقالات العزاء التي يسطرها الكتبة الذين ظلوا لسنوات عشر يبشروننا بديمقراطية التفتيت، والتشرذم، وبحريات تنطلق من القواعد العسكرية الأميركية، وبكرامة وحرية يقودها متطرفو القاعدة والإخوان المغلقو العقل والأفق، وبنمط ميليشاوي، وفوضى تقودها حثالة الشعب السوري، الذين صنعوا منهم ثواراً في وسائل إعلامهم، حتى كاد هؤلاء يصدقون أنفسهم! الآن يكتب هؤلاء منبهرين بحجم التحولات، والتغيرات، والانقلابات في المواقف، ولا يعرفون أي عنوان يختارون لمقالاتهم البائسة المكشوفة، المفضوحة، التي لم تعد تمتلك القدرة على إقناع طفل صغير.
– مواقف بعض الأطراف الانفصالية في الجزيرة السورية، الذين مازالوا يطمئنون أنفسهم من خلال الاتصال مع بعض الأطراف في الولايات المتحدة، وإطلاق التصريحات الفارغة من أي معنى، التي تدل على أن هؤلاء لم يفهموا بعد أن هذه الأوهام التي يعيشونها لا مكان لها في مستقبل سورية، وعليهم أن يقرؤوا ما كتبته مجلة الـ«فورين بوليسي» ذات الوزن والتأثير، إذ قالت: «إن أفضل مسار عمل اليوم هو أن يستعيد الرئيس بشار الأسد السيطرة على شمال سورية، ويجب أن نبدأ بالإقرار بأن التزام الولايات المتحدة تجاه «قسد» لم يكن مطلقاً أو بلا نهاية، كان تكتيكياً، ومشروطاً على أساس مواجهة داعش، فلم يقاتل الأكراد الدولة الإسلامية لمصلحة الولايات المتحدة، ولم يساعدهم الأميركيون بدافع الإحسان»، مع ذلك البعض لا يريد أن يفهم، ويصر على الذهاب لمزبلة التاريخ!
إن تحولات أخرى كثيرة سنشهدها خلال المرحلة القادمة ستثلج صبر السوريين الأسطوري، وستشعرهم أن صبرهم وصمودهم لم يكن مجانياً، بل كان من أجل الحفاظ على سورية قوية، موحدة، ومن أجل طرد ودفن هذه اللغة المسمومة التي انتشرت عبر سنوات عشر، ونخرت وعي جزء من مجتمعنا، وهذا أمر لابد من مواجهته، أما الأهم فإن هذه التحولات الكبيرة سوف تنعكس تدريجياً على الواقع الاقتصادي والاجتماعي، والأمور التي تراكمت طوال سنوات عشر، ليس من السهل إزالة آثارها دفعة واحدة.
علينا أن نقف بإجلال وإكبار أمام قبور شهدائنا، وآلام جرحانا، وجيشنا العظيم، وقوى المجتمع الداعمة، وحلفائنا وشهدائهم، فهذه الحرب كلفتنا الكثير الكثير، لكنها حرب حولت تاريخ العالم، ورسمت مستقبلاً جديداً للمنطقة، إذ إننا أمام عالم جديد، يتحول بالتدريج، وسورية وحلفاؤها تعتز بأنها واجهت مشروعاً تتساقط أحجاره مثل الدومينو، وما على من يفهمون إلا أن يقرؤوا ما كتبته الـ«فورين بوليسي» من أن: «الحل للوضع في سورية هو الاعتراف بانتصار (الرئيس) الأسد، والعمل مع الأطراف الأخرى المعنية لتحقيق الاستقرار هناك (…) ولسوء الحظ فإن هذا النهج المعقول وإن كان بغيضاً، هو لعنة على السياسة الخارجية لكل من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، باعتبار أنه يجب على الولايات المتحدة ألا تسحب جندياً واحداً من سورية، لكن على واشنطن أن تفعل».
وإذا كان الخصوم قد اعترفوا، وبدؤوا بالنزول عن الشجرة، فعلينا أيضاً التطلع للمستقبل برؤية جديدة، وأخذ الدروس المستخلصة كي لا يستغل أحد بعد الآن ثغراتنا الداخلية، وقصورنا عن أداء واجباتنا، ونقاط ضعفنا، وتراخينا مرة أخرى، وأن نعزز نقاط قوتنا وهي كثيرة، من أجل أن يرتاح شهداؤنا في عليائهم، ويشعروا بأننا لن نخون الأمانة التي في أعناقنا، وهي الأمانة الأغلى التي علينا أن نحافظ عليها، وعلى رسالتها لشعبنا، ولأجيالنا القادمة، فالانتصار الذي في طريقنا لتحقيقه كان ولا يزال ثمنه غالياً جداً.