الإقتصاد الإسرائيلي وبعض نقاط قوته وضعفه
موقع قناة الميادين-
إبراهيم علوش:
من المتوقع أن يبلغ معدل نمو الاقتصاد الإسرائيلي 6.9% عام 2022. وترجيحات بانخفاض ذلك المعدل إلى 4.9% من جراء رفع معدلات الفائدة من طرف البنك المركزي الإسرائيلي لكبح جماح التضخم المتصاعد.
تناقلت مواقع إلكترونية إسرائيلية، الأسبوع الفائت، تقارير فرحة عن معدلات نمو عالية نسبياً للاقتصاد الإسرائيلي، في الربع الثاني من عام 2022، بناءً على الإحصاءات الأخيرة التي نشرها “مكتب الإحصاءات المركزي” في الكيان الصهيوني.
يقول تقرير لـ”هآرتس” مثلاً، في 16/8/2022، إن معدل نمو الاقتصاد الإسرائيلي بلغ 6.8%، على أساس سنوي، في الربع الثاني من العام الجاري، وأن محركات ذلك الارتفاع جاءت من ارتفاعٍ بنسبة:
أ -10.3% في الإنفاق الاستهلاكي الخاص.
ب -10.4% في الصادرات الإسرائيلية.
ج -7.7% في الاستثمار المباشر، أي في الأصول المادية، مثل المصانع والمنشآت الإنتاجية.
والعبرة من تلك الأرقام أن الاقتصاد الإسرائيلي ازداد حجماً، وأن مستوى المعيشة، معبّراً عنه بمتوسط الدخل الفردي في الكيان الصهيوني، ارتفع بنسبة 4.5% بين صيفي عام 21 20 وعام 2022. وكل الأرقام أعلاه تأخذ معدل التضخم بعين الاعتبار، أي أنها معدلات نمو فعلية لا إسمية.
الخبر العاجل هنا، والذي لم تلتقطه الكثير من وسائل الإعلام العربية، هو أن إحصاءات معدلات النمو الإسرائيلية الأخيرة تبرز كعلامة فارقة بشدة في ظل حركة الاقتصادات الكبرى في العالم نحو مسارات ركود. فالاقتصاد الأميركي ليس من المتوقع أن ينمو أكثر من 2.3% عام 2022، واقتصاد الاتحاد الأوروبي لن يتجاوز نموه 2.7%، والصيني 3.3%، بحسب آخر التوقعات المتفائلة في تموز / يوليو الفائت.
أما الاقتصاد الإسرائيلي، فمن المتوقع أن يبلغ معدل نموه 6.9% عام 2022. وهناك من يرجح انخفاض ذلك المعدل إلى 4.9% من جراء رفع معدلات الفائدة من طرف البنك المركزي الإسرائيلي لكبح جماح التضخم المتصاعد.
ولكن، إن صدق توقع الـ6.9%، فإن ذلك يعني ازدياد حجم الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي من 486.16 مليار دولار عام 2021 (بحسب آخر الإحصاءات المعدلة في تقرير “مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي)، إلى نحو 520 مليار دولار (بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي في 19/4/2022).
يشار أيضاً إلى أن معدل التضخم في الكيان الصهيوني، بلغ 4.4% في حزيران / يونيو الفائت، و5.2% في تموز / يوليو، على أساس سنوي، وهو أعلى معدل تضخم يصله الكيان منذ عام 2008، ولكنه يقارب نصف معدل التضخم الأميركي والأوروبي فقط، أي أن الاقتصاد الصهيوني لم تصله الموجة التضخمية بالقوة ذاتها، كما أنه ينمو في الوقت الذي تتباطأ الاقتصادات الغربية عموماً.
لماذا يجب أن يهمنا معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الكيان الصهيوني؟
حجم الاقتصاد، ممثلاً بحجم الناتج المحلي الإجمالي، مهمٌ طبعاً في:
أ -حسابات موازين القوى العالمية والإقليمية، وإلا لما كان لبعض الإمارات الخليجية الصغيرة وزنٌ في السياسة العربية.
ب -تحديد نوعية الصناعات التي يمكن أن تكون مجدية في بلدٍ ما، إذ إن الاقتصادات الصغيرة لا تتسع لصناعات كبيرة ومتقدمة.
ج -توفير موارد أكبر لتغطية الإنفاق العسكري، وهي نقطة ضعف الاتحاد السوفياتي السابق: أذرع عسكرية قوية، ومشروع أممي كبير، لا يكاد يقوى جسد الاقتصاد على حملهما.
د -أخيراً، كلما ازداد حجم الاقتصاد بالنسبة إلى عدد السكان، ارتفع متوسط الدخل الفردي، أي مؤشر مستوى المعيشة، وهو ما يعدّ نقطة جذبٍ مهمة للهجرة إلى الكيان الصهيوني، لا سيما في ظل توجه الاقتصاد العالمي نحو الركود، وفي الدول التي تعاني حروباً مثل أوكرانيا وروسيا وغيرهما.
هي نقطة لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند تناول مشكلة روسيا مع الوكالة اليهودية التي تعمل على تهجير المواطنين الروس إلى الكيان الصهيوني، وهي مشكلة أمن قومي عند روسيا التي تعاني نقصاً سكانياً. أما زيلنسكي، فيهودي صهيوني، وولاؤه للقضية الصهيونية، أي قضية تعزيز الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة، يسبق ولاءه لأوكرانيا التي يرأسها.
لذلك، يجب أن نهتم إذا ازداد الاقتصاد الإسرائيلي حجماً، ولا سيما مقارنةً بالاقتصادات العربية. ويذكر أن الاقتصاد العربي الوحيد الذي يفوقه حجماً هو الاقتصاد السعودي، ويتوقع أن ينمو بمعدل 7.6% عام 2022، ولكنها زيادةٌ تظهِر أساساً مدى ارتباط ذلك الاقتصاد بتقلبات أسعار النفط والغاز، أي أنها زيادةٌ غير مستدامة لأنها غير مستمدة من ديناميكيات داخلية منتِجة ومتكاملة.
نحو تفكيك “معجزة” الاقتصاد الإسرائيلي
تدفع الاقتصاد الإسرائيلي، بالمقابل، ديناميكيات منتِجة ومتقدمة، ولكنّ كعب أخيلها الجوهري هو ذاته مصدر الإبهار فيها: ضيق مساحة الكيان الصهيوني وقلة سكانه وموارده الطبيعية بالنسبة إلى اقتصاد بمثل هذا الحجم الكبير؛ أي أن الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي ما كان ليبلغ نحو نصف ترليون دولار عام 2021 ببضعة ملايين من السكان، وبضع عشرات آلاف الكيلومترات المربعة العربية المحتلة، والفقيرة بالموارد الطبيعية والمياه العذبة (المهمة للزراعة)، لولا تكامله العضوي مع الاقتصادات الغربية أساساً.
تبلغ مساحة فلسطين 27 ألف كم مربع، ومساحة ما يحتله الكيان الصهيوني من الجولان 1500 كم مربع، ولو أضفنا شبعا والقرى اللبنانية السبع، وأي شرائط حدودية أخرى، فإن الحديث يدور عن مساحة لا تزيد على 30 ألف كم مربع محتلة، وعن 6.76 مليون يهودي مستعمر مستوطن على أرض فلسطين، وعن 5 أنهار، أطولها نهر الأردن، ويبلغ طوله 251 كم، فيما طول الأنهار الـ 4 الصغيرة الباقية ما بين 45 و70 كم.
يبرز الاقتصاد الصهيوني، استناداً إلى تلك البقعة الجغرافية والقاعدة الديموغرافية الصغيرتين، كاقتصاد إقليمي كبير. وإذا ما قورن عالمياً بالدول المشابهة حجماً وسكاناً، فهو يقارن بفئة اقتصادات الدول الأوروبية الصغيرة نسبياً مثل النمسا وأيرلندا وبلجيكا. وتقترب منه الأخيرة مساحةً وتفوقه اقتصاداً، أما الأولى والثانية فتزيدان عنه مساحةً بأكثر من ضعفين ونصف ضعف، وتقلان عنه اقتصاداً.
لمحة عن مصادر قوة الاقتصاد الإسرائيلي
ثمة ظاهرة مبهرة هنا إذاً، بمقاييس اقتصادات الدول الطبيعية، إلا أنها ظاهرة غير طبيعية، بل مفتعلة، لأنها نشأت في كيان غير طبيعي ومفتعل، ويمتد عصبها الاستثماري تاريخياً إلى المصادر الرئيسية التالية:
1 – الدعم المالي الذي قدمته الدول الغربية إلى الكيان الصهيوني، ومنه مثلاً التعويضات التي دفعتها ألمانيا عما يسمى “المحرقة” في الخمسينيات والستينيات، والبالغة قيمتها بعملة اليوم أكثر من 111 مليار دولار، و150 مليار دفعتها الولايات المتحدة في العقود الفائتة، مع التزام مسبق بخطط عشرية أقر آخرها عام 2016، للأعوام 2019-2028، بقيمة 38 مليار دولار، أي 3.8 مليارات دولار سنوياً.
2 – الأموال التي أحضرها المستعمرون المستوطنون معهم، وكانت رافعةً رئيسيةً من رافعات تأسيس المشروع الصهيوني في فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر. ومن يطلع مثلاً على كتاب “الدولة اليهودية” لثيودور هرتزل، المنشور عام 1896، سيجد أن الجزء الأساسي منه عبارة عن خطة عمل (كانت موجهة لآل روتشيلد) لإنشاء شركة استعمارية، على غرار “شركة الهند الشرقية” مثلاً، تسجَل كشركة مساهمة عامة في لندن، وتتولى بيع أملاك اليهود في العالم، وتقدم لهم ما يعادلها من عقارات وأملاك في الدولة اليهودية المزمع تأسيسها. ويعد بنك “ليئومي”، أحد أهم البنوك في الكيان الصهيوني اليوم، من مخرجات الشركة التي أسسها هرتزل.
3 – فتح أسواق الدول الغربية على مصراعيها للصادرات الإسرائيلية. وما برحت الولايات المتحدة الأميركية الوجهة الأولى للصادرات الإسرائيلية، بنسبة بلغت 30% من مجموعة الصادرات عام 2021، أو ما يزيد على 16 مليار دولار، أو نحو 17 مليار دولار إذا أضفنا كندا. واستقبلت القارة الأوروبية مجتمعة أكثر من 34% من الصادرات الإسرائيلية عام 2021، أو ما يزيد على 18 مليار دولار.
ولا ننسى التجارة مع تركيا طبعاً، الشريك التجاري الأهم للكيان الصهيوني في العالم الإسلامي الذي استقبل نحو ملياري دولار من الصادرات الإسرائيلية عام 2021 وحده، وصدّر إليه 5.64 مليارات دولار من السلع في ذلك العام، ليبلغ التبادل التجاري بينهما أكثر من 7.6 مليارات دولار، وهي التجارة التي شهدت تصاعداً أكبر في الأشهر الأولى من عام 2022، ومن المتوقع أن تزداد تصاعداً مع إعادة السفراء بين الطرفين مؤخراً والاتفاق على تطوير العلاقات على الصعد الأخرى كافة.
أهم نقطة قوة داخلية للاقتصاد الإسرائيلي جاءت مع اتفاقية أوسلو
بعد اتفاقية أوسلو المشؤومة عام 1993، وموجة التطبيع التي تفشت مثل كوفيد-19 في التسعينيات، انفتحت أمام الكيان الصهيوني أبوابٌ مغلقة كثيرة دولياً، فراح يتغلغل في اقتصادات لم يكن له فيها موطئ قدمٍ من قبل.
فأوسلو لم تكن خطيئةً سياسية فحسب، بل خطيئة اقتصادية أيضاً، لا من حيث بلاهة اتفاقيات باريس (1995) التي طوبت الضفة الغربية وغزة رسمياً كمستعمرة إسرائيلية مغلقة فحسب (بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية وغزة نحو 3.5 مليارات دولار عام 2021)، بل من حيث فتح آفاق تجارية واستثمارية للكيان الصهيوني عالمياً أصبحت رافعة داخلية فيما بعد للاقتصاد الإسرائيلي؛ لكي يتجنب أسوأ آثار الركود التضخمي الذي تسير إليه الاقتصادات الغربية اليوم بخطىً حثيثة، وإن غير راغبة.
يكفي أن نشير إلى ازدهار العلاقات الاقتصادية والاستثمارية الإسرائيلية مع دولٍ صاعدة مثل الصين والهند، لم تكن لها علاقات مع الكيان الصهيوني رسمياً وتجارياً قبل عام 1992. أما الاتحاد السوفياتي، والذي كان قد قطع علاقاته مع العدو الصهيوني بعد حرب عام 1967، فاستعادها رسمياً في تشرين الأول / أكتوبر عام 1991، قبل أسبوعين من محادثات مدريد، نتيجة تحولات داخلية فيه، لم تكن اليد الصهيونية بعيدةً عنها، انتهت بانحلاله في نهاية ذلك العام.
ويرتبط الاقتصاد الإسرائيلي حالياً بوشائج متينة مع كل منظومة البريكس، من الصين والهند إلى روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، وفي عموم آسيا وأفريقيا وأبعد، وهو ما لم يكن قائماً قبل أوسلو وما سبقها.
ويتيح ارتباط الاقتصاد الإسرائيلي الجانبي بالدول الصاعدة، إلى جانب استناده إلى الجدار الغربي، أن يضع قدماً في الغرب وأخرى في الشرق ليعزز شروط نموه وازدهاره وليصعد مع الصاعدين، ويتجنب الأفول مع الآفلين.
بلغت صادرات الكيان الصهيوني إلى الصين عام 2021 أكثر من 4.4 مليارات دولار، وبلغت وارداته منها أكثر من 16.64 مليار دولار في العام ذاته، لتأتي الصين في المقام الأول من حيث حجم الواردات إلى الكيان الصهيوني، تليها الولايات المتحدة الأميركية، فألمانيا، وتركيا وإيطاليا وروسيا وبلجيكا وروسيا واليابان ثم فرنسا.
يتحمل مسار أوسلو، ومن انجرفوا فيه، مسؤوليةً كبيرةً في تعزيز عناصر القوة الاقتصادية للكيان الصهيوني عالمياً، فلا اعتراف في كل العالم مثل الاعتراف الفلسطيني، حتى اتفاقية كامب ديفيد مثلاً لم تحقق مثل تلك النتيجة.
وتلك ليست جريمة بحق القضية الفلسطينية والأمة العربية فحسب، بل تمثل جريمةً أممية بكل ما للكلمة من معنى. فمن دون غطاء فلسطيني ما، لم يكن ممكناً لدولٍ كثيرة، صديقة، أن تقيم علاقات مع العدو الصهيوني، تماماً كما أن التطبيع الفلسطيني والعربي والإسلامي والأممي يمثل غطاءً سياسياً ومعنوياً للإجرام الذي يمارسه العدو الصهيوني بحق الشعب العربي الفلسطيني.
مقاومة التطبيع: الجدار الأخير الذي يحول دون تعملق الاقتصاد الإسرائيلي
لكنّ القصة لا تتعلق بالسياسة فحسب، إنما بقوانين علم الاقتصاد، إذ إن الأزمة الوجودية للاقتصاد الصهيوني، الذي يختزن إمكانات شديدة التقدم مقارنةً بمحيطه، بفعل الخبرات ورؤوس الأموال التي حملها المشروع الصهيوني معه من الغرب إلى الأرض العربية المحتلة، هي عدم وجود أسواق واسعة بما فيه الكفاية لجعل الاستثمار الاقتصادي الكبير في “إسرائيل” مجدياً.
كلمة السر هنا هي “اقتصاديات الحجم” Economies of Scale. فثمة قطاعات اقتصادية تتميز بانخفاض التكلفة الوسطية للوحدة كلما ازداد حجم الإنتاج. على سبيل المثال، مصنع شركة “تيسلا” للسيارات الكهربائية في شنغهاي الصينية أنتح نحو مليون سيارة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما يعادل 333 ألف سيارة في السنة، وهذا يسمح بتخفيض كلفة إنتاج السيارة الواحدة إلى أدنى مستوى ممكن.
ولم يكن ممكناً لمصنعٍ من هذا القبيل أن يكون مجدياً استثمارياً في سوقٍ صغيرة لن تستوعب أكثر من 20 أو 30 ألف سيارة في السنة مثلاً، لأن الاستثمار الضخم في مثل ذلك المصنع لن تغطيه مبيعات محدودة النطاق، ولذلك لا تنشأ الصناعات الثقيلة والمتقدمة تكنولوجياً إلا في الأسواق الكبيرة (وهذا هو الأساس العلمي للمصلحة القومية العليا في إنشاء سوقٍ عربية مشتركة).
ما سبق يعني أن مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني ليست هراءً إنشائياً أو محض “أيديولوجيا”، بحسب تعبير الليبراليين “المحايدين”، إنما تعني أن مناهضة التطبيع اقتصادياً تحرم العدو الصهيوني من أسواق يبيع فيها منتجات صناعاته الثقيلة والمتقدمة، ومن مجالٍ حيويٍ يتمدد فيه انطلاقاً من فلسطين المحتلة، ومن مراكمة عناصر قوته ليصبح قطباً عالمياً، لا إقليمياً (معزولاً) فحسب.
مناهضة التطبيع إذاً، على الرغم من محاولة العدو الصهيوني التظاهر بأنه لا يكترث لها، هي كعب آخيل الاقتصاد الصهيوني الأهم. وتمثل كل سلعة أو خدمة إسرائيلية ترفض شراءها موقفاً نضالياً يسهم في منع الصهيوني من التمدد اقتصادياً، ومن تعزيز عناصر قوته، مهما بدت تلك السلعة قليلة الأهمية.
إن فتح الأسواق عالمياً للصناعات الصهيونية، وهو بعض ما فعلته اتفاقية أوسلو وما سبقها، أتاح للكيان الصهيوني أن يصبح محجاً للاستثمارات في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وإذا فُتحت له الأسواق العربية والإسلامية بالكامل، كما تفعل تركيا، فسيصبح القوة الأولى اقتصادياً في غير التكنولوجيا المتقدمة أيضاً، وسينشئ صناعات ثقيلة ومتوسطة وخفيفة تغزو الوطن العربي من البحرين إلى المغرب، ليبدأ عصر “الإمبراطورية الإسرائيلية” بالفعل في “الشرق الأوسط”، ذلك التعبير الاستعماري الذي ينفي الهوية العربية عن بلادنا ويكرسنا تابعاً شرق أوسطَياً للمركزية الأوروبية.
كيف أصبح الكيان الصهيوني من أهم مراكز التكنولوجيا المتقدمة في التسعينيات؟
استثمرت الصين، عام 2018، على سبيل المثال، 424 مليون دولار في قطاع التكنولوجيا المتقدمة في الكيان الصهيوني، وهو ما شكل 5% من الاستثمارات في الشركات الإسرائيلية الناشئة في ذلك القطاع آنذاك. ولولا ضغوط إدارة ترامب المكثفة على حكومة نتنياهو وقتها لتقييد الاستثمارات الصينية في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، خوفاً من تسربها إلى الصين، لتصاعد ذلك الاتجاه بعد أن أسست شركات مثل “هواوي” و”علي بابا” الصينيتين مراكز أبحاث في الكيان الصهيوني.
وقد أثمرت الضغوط الأميركية على كيان العدو، ففي عام 2021، انخفضت نسبة الاستثمارات الصينية في الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة في “إسرائيل” إلى 1% من المجموع فحسب.
يحب بعض الكتاب العرب التركيز على فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الكيان الصهيوني باعتباره أحد أسرار قوته، بحسب هؤلاء، معززين ذلك الطرح بأمثلة عن مقاضاة وزراء ورؤساء وسجنهم بتهم الفساد. لكن الأهم، في الحقيقة، هو المنظومة التعليمية والبحثية المتميزة في دولة العدو، من المدارس إلى الجامعات إلى مراكز الأبحاث، والتي أصبحت حاضنة للتكنولوجيا المتقدمة إنتاجاً وتصديراً، وهو ما يمكن أن نتعلم منه درساً مفيداً حقاً من عدونا. ومن البديهي أن إلقاء بضع مئات مليارات الدولارات على حفنة من الحمقى والفاسدين لن يحوّل أي بلد إلى دولة متقدمة.
ما حدث بعد اتفاقية أوسلو ووادي عربة، وانطلاق موجة التطبيع في التسعينيات، هو أن الشركات الدولية العابرة للحدود انتقلت إلى الكيان الصهيوني في هجرة جماعية يحدوها الأمل بتحوله إلى بؤرة للانطلاق إلى المحيط العربي والإسلامي على خلفية المؤتمرات الاقتصادية التطبيعية في عمان (1994)، والدار البيضاء (1995)، والقاهرة (1996)، والدوحة (1997).
وما برحت شركات دولية كبرى، لا سيما الأميركية منها، رافعةً للتكنولوجيا المتقدمة في الكيان الصهيوني. ولذلك، نجد أن عناوين كبرى في عالم الشركات الدولية، مثل “مايكروسوفت” و”إنتل” و”آبل”، أنشأت أولى مراكز أبحاثها خارج الولايات المتحدة الأميركية في الكيان الصهيوني، وأن شركات كبرى أخرى مثل IBM و”غوغل” و”هيلويت-باكارد” و”أنظمة سيسكو” و”ميتا (فيسبوك)” و”موتورولا” لديها مراكز أبحاث وتطوير مركزية في فلسطين المحتلة.
لا نتفاجأ إذاً بأن الكيان الصهيوني هو إحصائياً ثاني أكثر مكان تنشأ فيه شركات جديدة عالمياً بعد الولايات المتحدة الأميركية start-ups، ولا أنه ثالث أكثر مكان، بعد الولايات المتحدة والصين، توجد فيه فروع للشركات الكبرى التي يجري تداول أسهمها في بورصة Nasdaq في نيويورك.
فهذا الكيان ليس ذراعاً للإمبريالية في بلادنا فحسب، بل إنه مكوّنٌ عضويٌ في النخبة الحاكمة فيها، وهو ما لا يدركه من يزعمون أن اليهود في فلسطين أبرياء “لولا أن الإمبريالية تستغلهم”. فنحن نواجه، من المنظور الاقتصادي-السياسي، الحركة الصهيونية العالمية، لا الاحتلال الفيزيائي لفلسطين فحسب.