#الأكراد..، ثوَّار القومية التائهة والوطن المستحيل
أمين أبوراشد – موقع المنار
سقوط جرابلس وطرد إرهابيي داعش منها، بواسطة مسلَّحي ما يُعرف بـ “المعارضات السورية”، مدعومين من “التحالف الدولي”، ومن تركيا براً وجواً، يعني أن الأكراد الذين مُنعوا من دخولها، قد وصلتهم رسالة واضحة، أن حِزام “الإقليم الكوردي السوري” من الحسكة الى جرابلس غير قابل للإكتمال أو الإلتحام مع “إقليم كوردستان العراق”.
وبدا نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي كان متواجداً في أنقره، وكأنه ضابط ميداني يحمل خارطة عمليات، وطالب القوات الكردية بالإنسحاب الى شرق الفرات، مهدداً بخسارتها للدعم الأميركي في حال عدم الاستجابة لمطلبه، واستجابت فوراً، وكانت القوات الكردية التي استولت على بلدة منبج الحدودية من قبضة داعش أوائل الشهر الحالي، قد طُلِبَ منها أيضاً الانسحاب عقب تطهيرها للبلدة من مسلَّحي هذا التنظيم، وغدا التعامل مع الأكراد في الشمال السوري، وكأنهم رموز تمرُّد على النظام السوري من جهة، أو أدواتٍ غُبّ الطلب لضرب داعش من جهة أخرى، وما من منطقة سيطروا عليها إلا وطبَّقوا فيها آليات إدارة “حُكم ذاتي كردي”، والحسكة خير مثال، حيث يتمُّ فيها عبر إدارة محلِّية كردية تسيير أمور الناس، بما فيها مولدات الكهرباء وحتى قسائم الخبز على أبواب الأفران، رغم أنهم – بإعترافهم – لا يستطيعون التخلِّي عن الدوائر الرسمية، وعن الموظفين الحكوميين الذين يتقاضون رواتبهم من الدولة السورية.
وسقوط جرابلس، اعتبره محلِّلون عسكريون أنه إنسحاب تكتيكي لتنظيم داعش الإرهابي، لأن البقاء فيها بات غير مُجدٍ لهذا التنظيم بعد قرار تركي بإقفال كافة المعابر مع سوريا، ومعبر جرابلس هو أهمها، وقرار إقفال المعابر هو نتيجة توافق روسي تركي، لا بل كان أحد أهم شروط الرئيس بوتين خلال قِمَّة سان بطرسبرغ مع الرئيس أردوغان، لكن كما أن داعش غير مرغوب بها بعد الآن في جنوب تركيا، خاصة بعد العمليات الإرهابية في الداخل التركي، فإن حزب العمال الكردستاني والمتحالفين معه من الأحزاب الكردية السورية هو بالنسبة لأردوغان العدو الأكبر الممنوع عليه مجرَّد الحلم بإقامة “حكم ذاتي كوردي سوري” على الحدود مع تركيا.
وكوردستان، التي تعني المنطقة الجغرافية التي يقيم فيها “الكورد” في الشرق الأوسط، والموزَّعة حالياً على أربع دول هي: تركيا، إيران، العراق وسوريا، مع وجود أقليات في كلٍّ من لبنان وأرمينيا وجورجيا، وتمَّ تقسيمها ككيان طبيعي على الدول الأربع المذكورة ضمن اتفاقية لوزان المبرمة بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، كوردستان هذه، توضَع لها خرائط استعادة كيانها وتوحيدها سياسياً منذ عقود، وتتباين هذه الخرائط بين “كوردستان الكبرى” و”كوردستان الصغرى”، ليس لخدمة “الكورد” بقدر ما أن قضية إيجاد وطنٍ لهم تخدِم مصالح من يهدفون لتمزيق دول الشرق الأوسط، خاصة وأن العالم يُحيي هذا العام مئوية سايكس – بيكو التي أوجدت الكيانات السياسية الحالية.
المشكلة القديمة / الجديدة التي تمنع قيام وطنٍ أو كيانٍ كرديٍّ مستقل هي في ثلاثة أمور:
أولاً: وَرَد لدى المؤرخ الكردي محمد أمين زكي (1880 – 1948) في كتابه “خلاصة تاريخ الكورد وكوردستان” أن الأكراد يتألفون من طبقتين من الشعوب، الطبقة الأولى التي كانت تقطن كوردستان منذ فجر التاريخ ويسميها المؤرخ زكي بـ ” شعوب جبال زاكروس” وهي وحسب رأيه، شعوب “لولو، كوتي، كورتي، جوتي، جودي، كاساي، سوباري، خالدي، ميتاني، هوري، نايري” وهي الأصل القديم جدا للشعب الكوردي، والطبقة الثانية، هي طبقة الشعوب الهندو- أوروبية التي هاجرت إلى كوردستان في القرن العاشر قبل الميلاد، واستوطنت كوردستان مع شعوبها الأصلية وهم ” الميديين و الكاردوخيين”، وامتزجت مع شعوبها الأصلية ليشكلا معا الأمة الكوردية، وهذه الطبقة الثانية يعتبرها المُستشرقون والقوميون العرب أنها “كوردية غير أصيلة” أنتجها مهاجرون ليس من حقِّهم المُطالبة بوطن، رغم مرور آلاف السنوات على هجرتهم.
ثانياً: رغم العصبية القومية التي يتمتَّع بها الشعب الكردي من الطبقتين المذكورتين، إلا أن نمو الأجيال الكردية ضمن أربع دول، جعل من هذا الشعب أحزاباً ومللاً تتباعد سياسياً وحزبياً، ومنها القومي واليساري والإسلامي وتختلف حتى على كيفية قيام وطن!
وإذا كانت الأحزاب الكردية في العراق متعدِّدة، لكن أبرزها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي أسَّسه الملا مصطفى البارزاني عام 1946 وهو اليوم بزعامة نجله مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني الذي أسَّسه جلال الطالباني عام 1975، وكلا الحزبين كانا يطالبان بعراق فدرالي تكون فيه كوردستان إقليما شبه مستقل بصلاحيات واسعة، لكن التطورات على الأرض منذ قيام ما يُسمَّى “الربيع العربي”، والقوة الميدانية للأكراد في الشمال العراقي والمدعومة أميركياً، رفعت من سقف مطالب الأكراد ودغدغت مشاعرهم بوطنٍ مستقل، يبيع نفط إقليم كوردستان عبر تركيا نتيجة خلافات مع الحكومة المركزية في بغداد، ويفتح أبوابه للإستثمارات العربية والدولية ضمن أمنٍ متميِّز، في كيانٍ غدا شبه مستقل، لا دور فيه للأحزاب الإسلامية الكردية، نتيجة النُزعة القبلية لدى مسعود البارزاني الذي يعتبر عشيرته أساس هذا الكيان.
الأمر مُختلف بالنسبة لأكراد سوريا، لأن حزب العمال الكردستاني التركي، وهو حزب محظور يتزعمه عبد الله أوجلان، المسجون حالياً، والذي انتهج سابقاً العمل المسلح سعيا لإقامة كيان كردي مستقل جنوب شرقي تركيا، وانسحب الى الشمال السوري بتسوية قهرية مع أوجلان في سجنه، يطغى الوجود العسكري لهذا الحزب في الشمال السوري على أكثر من 36 حزباً كردياً سورياً، حتى أن أبرز هذه الأحزاب الكردية السورية شعبياً، الذي هو حزب الاتحاد الديمقراطي، تعتبره تركيا فرعا سورياً عن حزب العمال الكردستاني التركي، وأحد الأذرع العسكرية لحزب الشعوب الديموقراطي الكردي في تركيا.
أكراد إيران الذين ينتشرون على وجه الخصوص، في محافظات كردستان وكرمانشاه وأذربيجان الغربية وإيلام في شمال إيران وغربها، كادوا يحققون حلم الدولة الإنفصالية عام 1946، حين أعلنوا “جمهورية مهاباد” في عهد الشاه، لكن السلطات الإيرانية آنذاك، نجحت في القضاء على الدويلة الوليدة، لتستمر علاقة المد والجزر مع نظام الشاه، وصولا إلى عام 1979 حين أطاحت الثورة الإسلامية بذلك النظام.
ورفضت الأحزاب الكردية في إيران بدايةً، الدستور الجديد للجمهورية الاسلامية، وقد تم استخدام بعض الأحزاب الكردية الإيرانية من قِبَل الغرب وأميركا لمماحكة نظام الجمهورية الإسلامية خاصة خلال الحصار على إيران، وانتقل بعض أفراد هذه الأحزاب الى مناطق الأكراد في الشمال العراقي والشمال السوري، بينما ارتضت الغالبية الكردية الإيرانية بمبدأ المساواة الذي نصَّ عليه الدستور الإيراني في ما يُعرَف بـ “حق المواطنة”، الذي أُقِرَّ عام 2014 ويُساوي في الحقوق والواجبات بين كافة مكونات الشعب الإيراني ويحفظ حقوق الأقليات كاملة.
ثالثاً: أينما حلَّ الأكراد المقهورون والمضطَّهدون تركياً، يُحاولون إنشاء “حُكمٍ ذاتي” في محاولة تعويضٍ عن وطنٍ مستحيل، لكن انتشارهم الواسع على أربع دول مستقلَّة، إضافة الى أكراد الشتات، يمنع إنشاء وطنٍ لهم، لأنهم رغم التفافهم حول قوميتهم وفخرهم بها، فقد تعدَّدت مشاربهم السياسية وأحزابهم وطموحاتهم الوجودية، مع احتفاظهم بالروابط الإجتماعية والعادات والتقاليد الكردية، ولعل قيام كيان كُردي شبه مستقل، لن يتحقَّق لهم سوى في “كوردستان العراق” وضمن الحدود الحالية، وقد يصمُد هذا الكيان طالما أن مسعود البارزاني على قيد الحياة، ولا دويلة تحت مسمَّى كوردستان الكبرى أو الصغرى سوف تنشأ، لأنها ستكون سُبحة تنسحب على كافة الإتنيات والمذاهب في الشرق الأوسط، وهذا ما كانت تطمح إليه أميركا وتقف روسيا في مواجهته، وسينتصر الخيار الروسي على الأرجح، لأن خطر التفكُّك وقيام كيانات “حُكم ذاتي” لن ينحصر ضمن الشرق الأوسط فقط وسوف يُلامس بعض جمهوريات روسيا الإتحادية…