إضطرابات في مجلس الأمن القومي من أعلى الهرم إلى أسفله
تعريب: قناة الميادين:
مستشار الأمن القومي مايكل فلين بدا في حالة ترقب منذ بدأ التحقيق بشأن حديثه مع السفير الروسي في الولايات المتحدة عن رفع العقوبات التي فرضت على روسيا في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما، وحول ما إذا كان ضلّل نائب الرئيس مايك بنس بخصوص هذه المحادثات. ويبدو أن بقاءه في منصبه بات معلّقاً على هذه القضية.
بالرغم من أن ترامب قال للمراسلين من على متن الطائرة الرئاسية الجمعة إن لا علم لديه بشأن التساؤلات الأخيرة التي تحوم حول صفقات فلين مع روسيا، إلا أن مساعديه قالوا إن ترامب كان يراقب عن كثب، في عطلة نهاية الأسبوع التي التقى فيها رئيس الوزراء الياباني ورافقه خلالها فلين، ردة الفعل على محادثات الأخير. إذ توجد نصوص محادثة هاتفية واحدة على الأقل، قامت بتسجيلها وكالات الاستخبارات الأميركية في إطار التنصت على الدبلوماسيين الأجانب. ومن شأن هذه المحادثة أن تحدد مستقبل فلين.
مستشار السياسات في البيت الأبيض ستيفن ميلر بدا حذراً في الحديث عن مستقبل فلين. وقال في مقابلة الأحد مع “ان بي سي” إن التضليل المحتمل لنائب الرئيس حول الاتصالات مع روسيا هو “قضية حساسة”. ورداً على سؤال عما إذا كان لا يزال فلين يحظى بثقة ترامب، أجاب ميلر “إن هذا السؤال يجب أن يوجه للرئيس”.هذا السرد لما يجري داخل مكاتب الأمن القومي التي تضمّ عدة مئات من الموظفين الذين يقدّمون الاستشارات للرئيس في مجالات مكافحة الإرهاب والسياسة الخارجية والردع النووي وغيرها من قضايا الحرب والسلم، يستند إلى مقابلات مع عشرات الموظفين الحاليين والسابقين في مجلس الأمن القومي ومسؤولين حكوميين آخرين، تحدثوا كلهم شرط عدم ذكر أسمائهم خشية من أعمال انتقامية.
وقال آدم شيف النائب الديمقراطي في لجنة الاستخبارات في مقابلة هاتفية “لا يزال مجلس الأمن القومي حتى الآن ضعيفاً جداً”.
في محادثة هاتفية بعد ظهر الأحد قالت نائب مستشار الأمن القومي كي تي ماكفارلاند “إن الاجتماعات الأولى للمجلس كانت أكثر حيوية وحسماً وتشدداً مما كانت عليه في الماضي” لكنها اعترفت بأن مصير بعض المسؤولين على المحك. وقالت المسؤولة السابقة في إدارة رونالد ريغن والتي عملت في فوكس نيوز، “إن الأمر ليس فقط مرتبطاً بكونها إدارة جديدة بل إن الحزب أيضاً جديد، وقد جرى انتخاب دونالد ترامب من قبل أشخاص أرادوا تغيير الوضع القائم” معربة عن اعتقادها بأنه “سيكون من الخطأ عدم التخوف من حصول تغييرات خصوصاً وأن غالبية من هم في الحكومة لم يتبؤوا مناصب في أي من الحكومات السابقة”.
لطالما كانت هناك فترة تجريبية لأي مجلس أمن قومي جديد، والذي عادة ما يحصل على توجيهات من وزارة الخارجية والبنتاغون ووكالات أخرى، ويقع مقره مقابل البيت الأبيض وتحديداً في مبنى المكتب التنفيذي لأيزنهاور. على سبيل المثال استبدل الرئيس باراك أوباما أول مستشار له للأمن القومي الجنرال جايمس جونز، الذي كان يشغل منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا، بعد أن تبين له أن الأخير كان خياراً سيئاً للإدارة. كما اتسمت السنوات الأولى لمجلس الأمن القومي في عهد الرئيس جورج بوش الإبن بالاشتباكات بين شخصيات بيروقراطية ذات خبرة هي ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكولن باول، وبالقرارات التي كانت غالباً ما تتخذ خارج إطار القنوات الرسمية.
لكن ما يجري تحت إدارة ترامب مختلف وفق ما يقول مسؤولون. وليس بسبب سياسة ترامب الخارجية على تويتر فقط. (يقول مسؤولان إنه جرى الحديث خلال اجتماع عقد مؤخراً عن تزويد ترامب بتغريدات محددة بحيث يكون لفريق الأمن القومي تأثير أكبر).
عدد من المسؤولين الذين لم يريدوا العمل تحت إدارة ترامب عادوا إلى وكالاتهم السابقة، مخلّفين ثغرة أكبر من المعتاد في صفوف الفئة البيروقراطية التي تملك خبرة. الكثير من الذين بقوا والذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم موظفو خدمة مدنية سياسيون، شكّلوا مصدر إزعاج بسبب مظاهر التحزب العلني لديهم. في هذا السياق ينقل موظفون عن ماكفارلاند قولها في اجتماع للفريق كله هناك حاجة لـ”جعل أميركا عظمى مجدداً”. ويقال إن الموظفين الذين عيّنهم ترامب حديثاً يحملون فناجين القهوة التي تحمل شعار حملته الانتخابية خلال الاجتماعات مع نظرائهم الأجانب، حتى إن بعض أعضاء فريقه من المتحمسين اجتمعوا في إحدى الحانات على مقربة من البيت الأبيض وتباحثوا في تطهير مواقع التواصل الاجتماعي من الحسابات التي تتضمن أي مشاعر معادية لترامب.
غالبية أعضاء فريق ترامب للأمن القومي من الجسم العسكري، هؤلاء بمعظمهم من الذين تربطهم علاقة بفلين الذي شغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية ومن ثم مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية قبل إقالته من هذا المنصب. وبالتالي فإن الكثير من الأفكار الأولى التي طفت على السطح جاءت عبارة عن مبادرات عسكرية أكثر منها دبلوماسية.
خلال الأسبوع الماضي كان وزير الدفاع جايمس ماتيس يعمل على استكشاف إمكانية اعتراض البحرية الأميركية سفينة إيرانية والصعود على متنها للبحث عن أسلحة مهربة محتملة للمقاتلين الحوثيين في اليمن. ويبدو أن الحظر المحتمل يأتي تماشياً مع تعليمات لترامب خلال اجتماعات عقدها مع ماتيس ووزير الخارجية ريكس تيليرسون بهدف تضييق الخناق على دعم إيران للإرهاب.
لكن السفينة وفق مسؤولين اثنين كانت في المياه الدولية في بحر العرب. فما كان من ماتيس إلا أن قرر في نهاية المطاف وضع العملية جانباً أقله في الوقت الراهن. وفق مسؤولين في البيت الأبيض فإن سبب ذلك يعود إلى تسريب الأنباء عن عملية وشيكة بما يشكل تهديداً للأمن، وهو ما ساهم في تحريك برنامج “التهديد الداخلي”. بيد أن آخرين يشككون في وجود ما يكفي من الأسس في القانون الدولي لمثل هذه الخطوة متسائلين عما يمكن أن يحصل في حال وجدت القوات الأميركية نفسها فجأة تتبادل إطلاق النار مع البحرية الإيرانية، في الأيام الأولى للإدارة التي شهدت بالفعل عملية عسكرية فاشلة لها في اليمن مؤخراً.
وغالباً ما تعتمد ماكفارلاند على تجربتها التلفزيونية لتوضح للمسؤولين أن عليهم التعبير عن وجهات نظرهم في اجتماعات عاجلة للمجلس هي التي تحدد وقتها، وفق ما يؤكد عدد من المشاركين في هذه الاجتماعات.
وفيما كان أوباما يفضّل التقارير المؤلفة من ثلاث إلى ست أوراق منفصلة، فإن فريق الأمن القومي الحالي أبلغ بحصر التقارير بورقة واحدة مع الكثير من الرسوم البيانية والخرائط. يقول أحد المسؤولين “الرئيس يحب الخرائط”.
تشير التسريبات إلى أن التغيير طال البيروقراطية القائمة. على سبيل المثال اطلع مسؤول كبير في البنتاغون على مسودة الأمر التنفيذي بخصوص التعامل مع السجناء من خلال الشائعات غير الرسمية والتسريبات الإعلامية. فما كان منه إلا أن بادر إلى الاتصال بالبيت الأبيض لمعرفة مدى دقة الموضوع والتعبير عن مخاوفه، لكنه قال إنه “لم يكن متأكداً مما إذا كان مسموحاً له تقديم اقتراحات”.
وقال مسؤولون إن غياب آلية منظّمة لوثائق مجلس الأمن القومي، التي تعتبر من مسؤولية فلين، يفسّر عدم اطلاع ماتيس أو مدير السي آي ايه مايك بومبيو على عدد من أوامر ترامب التنفيذية قبل صدورها. ويقال إن أمراً واحداً فقط جرى تعديله بعد الإعلان عنه من أجل طمأنة بومبيو بأن له مقعداً في المجلس.
وفق مسؤولين في البيت الأبيض فإن الأمر يعتبر خطأ، وأن عملية مراجعة الأوامر التنفيذية أوكلت إلى كبير موظفي البيت الأبيض رينس بريبوس.
إلى ذلك، لا يزال فلين يواجه تعقيدات إضافية أبعد من محادثاته مع السفير الروسي. وقال مساعدوه إنه يشعر بالقلق إزاء تراجع العلاقة مع ترامب وتقييد التواصل معه خلافاً لما كانت عليه العلاقة بينهما خلال الحملة الانتخابية، وإزاء مجلس أمن قومي في الظل أنشأه ستيفن بانون كبير استراتيجييه الذي دعي للمشاركة في اجتماعات لجنة مديري المجلس منذ أسبوعين. من جهته يرى بانون أن الولايات المتحدة متجهة صوب مواجهة حتمية مع خصميها الرئيسيين الصين وإيران.
ويجد فلين نفسه في صراع مستمر مع وكالات الاستخبارات التي وصف عملها حول روسيا وغيرها من القضايا بأنه منحاز ودون المستوى. ومن الأمثلة على ذلك الحادثة التي جرت مع روبن تاونلي أحد نواب فلين والتي كانت جريدة “بوليتيكو” أول من نشرها. إذ إنه تم رفض طلب تاونلي الذي يملك تصريحاً أمنياً رفيع المستوى، من الوصول إلى معلومات سرية ما دفعه إلى ترك وظيفته في مجلس الأمن القومي.
ولم يتضح ما إذا كان ماضي تاونلي لا يؤهله الاطلاع على معلومات سرية، خصوصاً وأنه سبق لمسؤولين في إدارات سابقة أن تم التعامل معهم بالمثل، بيد أن البعض يرى في الحادثة طعنة في الظهر من قبل الاستخبارات.
اثنان من المسؤولين الذين هم على تماس مباشر مع القيادة في البيت الأبيض قالوا إن فلين تفاجأ حين علم أن وزارة الخارجية والكونغرس لعبا دوراً محورياً في صفقات أسلحة خارجية ونقل تكنولوجيا.
ما شكّل صدمة لفلين اكتشافه أنه ليس بوسع ترامب أن يأمر البنتاغون بكل بساطة بإرسال المزيد من الأسلحة للسعودية، التي تطالب برفع الحظر الذي فرضته إدارة أوباما على بيع القنابل العنقودية والأسلحة الموجّهة بدقة، أو إرسال شحنات أكبر من الأسلحة إلى الإمارات العربية المتحدة.
يقول بعض الموظفين إن فلين الذي كان ضابطاً سابقاً في الجيش لم يكن معتاداً على كيفية استدعاء الحرس الوطني في حالة الطوارئ، على سبيل المثال في حال حصول كارثة طبيعية مثل إعصار كاترينا أو تفجير قنبلة ذرية في إحدى المدن الأميركية.
في الاجتماع العام لمجلس الأمن القومي، تحدث فلين عن حياة عمل متوازنة، لجهة الاعتناء بالعائلة والاستفادة من الوقت في المجلس لاكتساب الخبرة التي من شأنها أن تساعد الموظفين في باقي أقسام الحكومة. خلال الاجتماع طُلب من الحاضرين رفع أيديهم حول العدد المتوقع للعاملين في البيت الأبيض خلال عام من الآن. فما كان من فلين إلا أن استدار نحو ماكفارلاند قائلاً لها، في ما بدا وكأنها مزحة تنمّ عن تواضع مفرط، “أتساءل عما إذا سنكون هنا بعد عام من الآن؟”.