أيها العرب: لا تمحوا رموزكم
د. نسيم الخوري
غالباً ما يرفع الناس فوق جدرانهم صوراً لرموزهم لا بهدف الزينة والتمدّن، بل بهدف تغطية الشقوق التي تعتور تلك الجدران بتقادم الزمن . وغالباً ما يهشّم الناس رموزهم لطواعيتهم وانفعالاتهم، لكنهم بين السلوكين يستيقظ البيت فيهم بيتين والوطن وطنين أو أكثر .
طُرح سؤال على مجموعةٍ من الشباب اللبنانيين إن كانوا يحفظون النشيد الوطني اللبناني . كانت النتيجة تمتمة . ليس الموضوع لبنانياً بحتاً، بل هو قد يطول كلّ وطن في الأرض فوقه مجموعات من الأجيال المتآلفة والمتشابهة أو المتنابذة والمنقسمة أو المتنافرة . يمكنني الملاحظة أنّ الشروخ تقوى بين الآباء والبنين مع انفتاح النوافذ على مصراعيها . لكنّ هذه المعضلة شاقّة بكونها وطنيّة وقومية، وقعت فوق رأسي مثل تفّاحة نيوتن الذي أخرج منها قانون الجاذبية، لكنّ تفّاحة نسيان أو محو الرموز والتواريخ والمُثل، تجرح رؤوسنا وطاقاتنا في بعث الجاذبية المنهارة بين الأوطان والمواطنين .
هذه المعضلة تنسحب على أسماء الشوارع والساحات في العواصم والمدن العربيّة والغربية بلا استثناء، سواء أكانت هذه باقية منذ بدايات التاريخ مثل الأهرامات والقلاع والحصون وبقايا سدّ مأرب، أم كانت مدناً حديثة خضراء مزدانة بالقباب والقصور وناطحات السحاب وغابات الأبراج ومصافي البترول والغاز، أم كانت تعابير ومصطلحات مثل حقوق الانتخاب والتعبير، واقتصاد السوق والمعرفة، وجذب العالم إلى البروتستانتية واللغة الإنجليزية والسيّارات الداكنة الزجاج أو “المفيّمة”، وصالات السينما و”البوب كورن”، أو البوشار والعنف والجنس الطريق الأمريكية والغربية إلى الحياة .
في قلب بيروت، هناك ساحة وحيدة للشهداء تتثاءب فيها تماثيل الاستقلال مربكة خائفة، وترفع فوقها التواريخ والأسماء الرمزية، لكنها تماثيل تبدو ضَجِرَة من الإهمال، مع أنّ المتظاهرين قد عربشوا فوقها منذ ال2005 . لا أدري مدى إلمامهم بها تماماً، لكنها معالم تكاد تكون مجهولةً كليّاً من الذين يرتادون يومياً “شارع مونو” أو “الزيتونة باي” أو “الجمّيزة” التي يعرفها الكثير من أبناء العرب . وفي تحقيق تلفزيوني جامعي، فشلت مجموعة من الشباب اللبناني في تفسير المعاني التاريخية والرمزية لتلك التماثيل التي مزّق الرصاص نحاسها مثل المناخل وتمّ الحفاظ عليها كذلك، للتذكير بالحروب اللبنانية التي حوّلت ساحة العاصمة بيروت من البلد أو ساحة البرج، إلى تسمية حديثة هي “الداون تاون” . ولنعترف بأنّ ثقافة التماثيل ما عادت تبعث أيّ شعور في أولادنا في عصر تتهاوى فيه تماثيل الأنظمة والحكّام في الساحات .
ولنفسّر أكثر: هناك عيد اندحار النازيّة في أوروبا يقع في التاسع من مايو/ أيّار . ما هو عدد الأوروبيين الشباب الذين يعرفون هذا الأمر؟ هم قطعاً يعرفون عيد رقص “الروك آند رول” الذي يقع في الثامن منه وليس غياب النازية، ولو أنّها عادت تفرّخ من تحت جذوعها اليابسة التي اجتثّها آباؤهم وأجدادهم من قبل توقاً إلى الحريّة .
وهناك ساحة في قلب العاصمة الجزائر، التي تتأهّب بارتباكٍ للانتخابات الرئاسيّة، اسمها ساحة “موريس إدوان” يعود إلى رياضي فرنسي ناهض الاحتلال الفرنسي للجزائر وانقلب عليه فأوقفه الجيش الفرنسي وقتل في ال،1957 ورفعت له الجزائر لوحةً تذكاريّة سقطت واهترأت مع مرور الزمن ومعها امّحت رمزية العدالة والحريّات إلى حدّ أن المارّة وأصحاب الحوانيت هناك ما عادوا يعرفون عن هذا الرمز شيئأً . وأكثر من ذلك بكثير: سألت يوماً طلاباً فرنسيين محاولاً الربط بين الثورة الفرنسيّة والثورات المخملية الناعمة التي تفشّت في شرقي أوروبا: من هو نابليون؟ جاءت الإجابات نوعاً من الاستهزاء الفعلي الذي لا يمكن وصفه بدقّة إلاّ لمن يعرف كيف يقلب الفرنسيون شفاههم معبّرين عن امتعاضهم حيال أمر ما لم يعجبهم .
تطول اللائحة في مجال محو الرموز . وقد يتّخذ الأفراد بعض الرموز التي ينفردون بها، وهنا يشدّد علماء النفس التحليلي على أهمية فهم ميل العقل إلى الرمز لضمان قوّته . لكنّ الوفرة في إشاعة الرموز الحديثة الملوّنة والسريعة النسيان نسفت الأسس . فالناس ما عادوا يستعملون من الرموز إلا ما هم بحاجة إليه، ورجل الإعلام أو الدعاية الحديثة Pin doctors قد يبالغ في خلق الرموز بهدف توضيب الرأي العام وعجنه وإغرائه لتطويعه وصبّه في قوالب . وهذا ما قد يحصل في ما هو مشترك أيضاً مثل الأعلام والمواقع التاريخية وأماكن العبادة والأقوال المأثورة والأشخاص، وكلّها تصفية لحقائق مجردّة أو معقدة سياسية أو ثقافية تتهددها دائماً ممحاة الغزو والاجتياحات . كيف؟
تبرز لهفة “الغزو” لدى الأقوياء، تحت مظلّة تصويب من تسمّيهم الضعفاء، لتثقيفهم وتحضيرهم لكنهم يقصفونهم تحت عنوان التحرير، لكنه التحرير من أنفسهم وتواريخهم ورموزهم . فهل نمحو من كتبنا المدرسية، مثلاً، المقولات التي تؤرّخ لبدايات عصر النهضة العربية من حملة نابليون بونابرت إلى الشرق عبر مصر في ال 1798؟ وهل تنتج السلطات الديمقراطية المستوردة غير البقع المستوردة التي لا تألف الاستقرار، ولا تحترم الرموز بل تهبط بكراماتها؟ هل تغيّرت دورات الدول الكبرى في إقتسام ملح الأرض ومياهها وتشوّيه رموزها؟ أو هل يسمح بعد من إدارة الظهر للبحر المتوسط المسكون بالأساطيل والمخابرات والجيوش، والتوغل في داخل آسيا؟
هذا السؤال الأخير أجابني عنه المفكّر اللبناني الأب ميشال حايك في باريس في جلسة 20/12/،1987 بالإيجاب، لكنّ إيجابيته تمّحي اليوم، وقد جاءت مشروطة أوّلاً، بخروج اللبنانيين من الشقوق التي أصابت لبنانهم إلى عشق الملاط في تدليسها، وأن يكون بينهم ثانياً ناصيف اليازجي وبطرس البستاني وجبران وولي الدين يكن وشبلي الشميل وخليل الخوري وفارس الخوري وغيرهم كثر في العروبة المبدعة، وثالثاً أن تعود روسيا إلى قرع جرس الرموز الأوّلى في الشرق بعدما كانت ترفل على القارات .