أين العالم بعد 5 سنوات من الأزمة المالية ؟
صحيفة الجمهورية اللبنانية ـ
طوني رزق:
تبدو الولايات المتحدة خارج منطقة الخطر. لكن القارة الاوروبية ما زالت تشكّل مصدرا لأزمات عالمية جديدة، في حين أن الوضع مُريب في كل من الصين واليابان وبريطانيا والاسواق الناشئة.
مضت خمس سنوات على اسوأ أزمة مالية عالمية شهدتها الاسواق في ثمانين عاما. هذه الأزمة كانت قد انطلقت في ايلول 2008 عقب افلاس البنك الاستثماري الاميركي لهمان برازرز (Lehman Brothers). وقد دفعت البنوك المركزية في العالم للتدخل مباشرة في الاسواق، وبشكل كثيف وغير مسبوق تاريخيا. وضخّت تريلونات الدولارات لتُخرج الاقتصاد العالمي من ثاني ركود اقتصادي. لكن تدخل البنوك المركزية فشل في تفادي وقوع العالم في ركود كبير ما زالت كبريات الاقتصاديات على وجه الارض تحاول وتجاهد للخروج منه. لكن وبعد خمسة اعوام من هذه الكارثة يطرح السؤالان التاليان: هل باتت الاوضاع المالية العالمية اكثر آمانا؟ وهل هناك احتمالات لنشؤ أزمات مالية كبرى أخرى في الافق؟ أما الاجوبة فقد تتراوح بين النعم وبعض الشكوك. اما التفاؤل فيأتي نتيجة سلسلة من الاصلاحات قد حققت في النظام المصرفي والمالي العالمي عقب الأزمة المذكورة. وقد يجعل ذلك من الصناعة المالية الحديثة اقل عرضة للوقوع في الكوارث الكبيرة. وفي البدء، تظهر الولايات المتحدة الاميركية وهي موطن الفوضى التي عمّت جراء افلاس بنك (Lehman Brothers) وكأنها تخلصت فعليا من الكثير من الديون المتضخمة، وتمكنت من تصحيح العديد والكثير من خلل التوازنات المختلفة في الاقتصاد الوطني. ولذلك، في الوقت الحاضر، يبدو ان امكانية حدوث الأزمات تبقى خارج الولايات المتحدة الاميركية. ولكن هذه الأزمات المحتملة لن تحدث ما يهز النمو العالمي كما فعلت ازمة Lehman في الولايات المتحدة الاميركية.
تبقى هناك مقاربة الاسباب الثلاثة لأزمة العام 2008 والتي كشفها افلاس lehman وهي في الاولى تضخم حجم الديون وخصوصا في القطاع المالي والمصرفي، والتي أدّى اليها تضخّم فقاعة القطاع العقاري والسكني في الولايات المتحدة الاميركية. وفي معالجة هذا السبب الاول، حققت الاصلاحات في القطاع المالي تحت القواعد الجديدة في المصارف في ما يعرف بمبادىء “بازل” لرسملة المصارف. اذ ألزمت المصارف بأن تكون لديها اموال خاصة اكبر، وربط ذلك بحجم موجوداتها وخصوصا بالنسبة للمصارف الكبيرة.
اما السبب الثاني لأزمة 2008 فكانت التداولات المركبة والمعقدة بالاوراق المالية المطورة في غياب واضح للشفافية. اذ لم يعد احد يدري فعليا اية اوراق مالية افضل من الاخرى، ومن هي الجهة التي تملك هذه الاوراق المالية. اما الاصلاح بالنسبة لهذه النقطة الثانية فجاء على مستوى دفع التداولات بالمشتقات المالية الى داخل غرف المقاصة مما يتيح شفافية افضل.
أخيراً، وبالنسبة لسبب الأزمة المالية الثالث وهو الارباك والغموض على مستوى قدرة او رغبة الحكومات على التدخل والمعالجة عندما تتدهور الانظمة المالية، وخصوصا عندما تنهار المصارف الكبرى.
في الواقع هناك القليل جدا من التقدم الذي تحقق على هذا المستوى. غير ان جهودا تبذل لوضع قواعد قانونية جديدة تلزم المصارف الكبرى على اصدار سندات دين يمكن للحكومات او غيرها شراءها في بعض حالات الافلاس. وقد تكون هذه الخطوات واعدة في سبيل اصلاح اكثر شمولية.
ويبدو ان الوضع المالي والمصرفي الاميركي قد اصبح اكثر امانا . فالمصارف عززت اموالها الخاصة وشطبت الكثير من الموجودات الهالكة. فزادت نسبة الملاءة الى 13 في المئة اي اكثر باشواط من النسب المطلوبة حديثا وافضل بـ 60 في المئة من النسبة التي كانت موجودة قبيل انطلاق الأزمة في العام 2008. واستعادت السوق العقارية والسكنية توازنها مع التصحيح المحقق على مستوى الاسعار من ناحية، وعلى مستوى الديون العقارية من ناحية ثانية.
كما ان الاقتصاد الأميركي بدأ يظهر بعض الانتعاش الثابت وتحسّنت نسبة العجز في الموازنة. وعليه، فان الولايات المتحدة لم تعد مصدر الخطر رغم وجود مشاكل على مستوى القروض للتلامذة والطلاب والتعويضات في القطاع العام. لكن الأمر ليس كذلك في كل من اليابان وبريطانيا، حيث الامر ما زال يشكل ضغوطا على الاقتصاد العالمي خصوصا مع اقتراب الدين العام الياباني من 250 في المئة من الناتج القومي العام.
في الصين، يبقى الخطر مركزا على قدرة الحكومة على مواجهة ومعالجة افلاسات قد تصيب البنوك الكبيرة. وفي الاسواق الناشئة من البرازيل وحتى تايلاند هناك مخاوف من جراء الهروب الكثيف للاموال من هذه الدول. وهناك تركيا التي تقترب من الخط الاحمر وهناك الكثير من الدول التي تعاني من تباطؤ النمو الاقتصادي.
غير ان المخاوف الاكبر وتركيز القلق يبقى في اوروبا. وهي المنطقة الاولى في العالم التي قد تشكل ارضا خصبة لانطلاق ازمة مالية عالمية، وانها منطقة اليورو بشكل اكثر تحديدا. فمشاكل الديون السيادية في هذه المنطقة ما زالت تتضخم باستمرار.
ولم تتمكن البنوك الاوروبية من تحسين نسبة الاموال الخاصة فبقيت الى حد كبير دون مستوى البنوك الاميركية، ولم تشطب هذه البنوك سوى كمية محدودة من الموجودات الهالكة. وتتخبط دول الاطراف في منطقة اليورو بمشاكل اقتصادية معقدة كما اعتماد المبالغة في فرض التقشف قد اضر كثيرا بالانتاجية. وتعاني منطقة اليورو من نسبة بطالة مرتفعة جدا يقابلها سياسات اجتماعية غير مستقرة. ويشكل ذلك مخاطر كبيرة ويحدث كل ذلك في اطار عام من التراخي على مستوى القيادات لتحقيق الاصلاحات الضرورية المطلوبة، وخصوصا على مستوى انشاء اتحاد مصرفي اوروبي والشكوك في قدرة او رغبة البنك المركزي الاوروبي لفعل عمل ما يتطلبه الامر لانقاذ اليورو من الانهيار. ومع الخطر الذي تشكله اوروبا وبعض الدول الاخرى يمكن القول انه وبعد خمس سنوات من ازمة العام 2008 المالية ما زال النظام المالي العالمي بعيدا من خط الآمان بحده الأدنى.