أوكرانيا في انتظار «التقسيم»
إن إعلان «جنيف الأوكراني» في السابع عشر من نيسان الجاري تضمن مجموعة من الخطوات الأولية الهامة لتهدئة الأزمة ونزع فتيل العنف في أوكرانيا. وهذه الخطوات يمكن إجمالها في: امتناع جميع الأطراف عن أية أعمال عنف أو استفزازات، رفض أي مظهر من مظاهر التطرف والتمييز العنصري او التعصب الديني، نزع سلاح المجموعات المسلحة غير الشرعية، إعادة المباني المحتلة بشكل غير قانوني، إخلاء الشوارع والساحات وغيرها من الأماكن العامة في المدن الاوكرانية من المظاهر غير الشرعية المسلحة، العفو عن المتظاهرين الذين يسلمون السلاح ويغادرون الأماكن المذكورة أعلاه طوعاً، تولي لجنة المراقبة التابعة لمنظمة الامن والتعاون الاوروبي الدور الاساسي في مساعدة سلطات اوكرانيا والمجتمعات المحلية في تنفيذ إجراءات تخفيف التوتر في الاماكن التي تحتاج لذلك، ودعم روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي لهذه المهمة، والتأكيد على أهمية الإصلاح الدستوري والاستقرار الاقتصادي والمالي في أوكرانيا.
لم يسلم هذا «الاتفاق الأولي» من سهام النقد من «الرؤوس الساخنة» سواء في روسيا أو في الولايات المتحدة الأميركية. فداخل روسيا، يرى البعض أن هذا الاتفاق يعكس فشل الديبلوماسية الروسية لأنه لم يتطرق إلى «فدرلة» أوكرانيا وتحويلها إلى دولة «محايدة» بما يضمن عدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي. وخارج روسيا، يرى خبراء أميركيون أنه يعبر عن فشل جديد لإدارة باراك أوباما، لأن بمقتضاه بات من حق روسيا عمل ما تشاء في أوكرانيا. كما أن الاتفاق ـ حسب بعض الأميركيين ـ لم يتطرق من بعيد أو قريب إلى مسألة شبه جزيرة القرم، وهو ما يعني أن الغرب تقبل عودتها الى روسيا.
ويكشف واقع الحال في أوكرانيا حالياً أن المحتجين في جنوب وشرق أوكرانيا لا يتعجلون في تسليم أسلحتهم وفض احتجاجاتهم. كما لم يستبعد سكان مقاطعة «زاكرباتيه» إعلان استقلالهم، وأعلنت «السلطة الشعبية» في مقاطعة لوغانسك تشكيل قيادة موحدة في جنوب شرق البلاد. وفي مدينة «أوديسا» أُعلن عن تشكيل جمهورية «نوفو روسيا الشعبية»، وذلك بجانب الجمهوريات الشعبية الأخرى التي ظهرت في دونيتسك وخاركوف، وسيطرة المحتجين بالكامل تقريباً على مدينة «سلافيانسك»، والسيطرة على مبان حكومية في نحو تسع مناطق في شرق وجنوب أوكرانيا. وما يُعقد من هذه اللوحة، تأكيد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في الثالث والعشرين من هذا الشهر زيادة حشد قوات بلاده على الحدود مع أوكرانيا لصد أي هجوم محتمل على الرعايا الروس أو المصالح الروسية. ويزيد من هذا التعقيد أكثر، استئناف حكومة كييف العملية العسكرية ضد المحتجين الانفصاليين الموالين لموسكو تحت مسمى «مكافحة الإرهـاب»، التي توقفت بشكل مؤقت أثناء عيد «الفصح». وكذلك دخول سفن عسكرية أميركية وأطلسية إلى البحر الأسود، واستعداد «الناتو» لإجراء مناورات في بحر البلطيق وإرسال عسكريين أميركيين إلى بولندا. كل هذا يؤشر، على أنه برغم التوصل الى «جنيف الأوكرانية»، فإن أوكرانيا تبقى على حافة انفجار سياسي واقتصادي واجتماعي. لقد اتضح أن الاتفاق كان حبراً على ورق وغير ملزم ولا يتضمن آليات واضحة للتنفيذ.
حضرت روسيا لقاء «جنيف الأوكراني» لعدة أسباب، فهي لا ترغب أن توجه إليها تهمة تقويض وإفشال المباحثات حول أوكرانيا، وهي تبدو أيضاً مهتمة بعدم اندلاع حرب أهلية في مناطق قريبة من حدودها لأن ذلك، يمكن ان يؤدي إلى زحف قوات حلف شمال الأطلسي إلى هذه المناطق. كما أن موسكو كانت تأمل في إقناع المشاركين في لقاء «جنيف» بضرورة تحقيق الإصلاح الدستوري و«فدرلة» أوكرانيا وإعلان «حيادها» وتأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية الأوكرانية. ونتيجة لعدم حدوث ذلك، فإن روسيا، في غالب الظن، لن تعترف بالانتخابات الرئاسية الأوكرانية في الخامس والعشرين من أيار المقبل. وفي الحقيقة، يصعُب تصور إجراء مثل هذه الانتخابات في وقت يشهد فيه شرق وجنوب أوكرانيا انقسامات كبيرة بين مؤيد ومعارض للسلطة المؤقتة في كييف. ومن المعروف، أن حكومة كييف تطرح مقابل مشروع «الفدرلة» الروسي استعدادها لتوسيع الحكم «اللامركزي» بمنح المناطق في الشرق والجنوب صلاحيات وحقوق لغوية وثقافية واقتصادية وسياسية أوسع مما هي عليه حالياً، ولكن مع الإبقاء على «الدولة الموحدة». وهو ما تؤيده الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وترفضه روسيا.
في ظل تصعيد الأزمة الأوكرانية بين محتجين مدعومين من روسيا في الجنوب والشرق، من ناحية، وحكومة كييف ومعها غرب أوكرانيا والدول الغربية من الناحية الأخرى، بات «جنيف الأوكراني» غير قابل للحياة عملياً. وما نراه اليوم هو أن هذا الاتفاق يتعثر تعثراً كبيراً. فروسيا والولايات المتحدة عاجزتان عملياً عن تطبيقه وتحاولان تفسيره بما يفيد مصالحهما في المقام الأول. كل ما تفعله روسيا والولايات المتحدة حالياً هو إدارة الصراع في أوكرانيا لا تسويته. إن بقاء أوكرانيا «كدولة موحدة» في ظل الظروف الحالية قد يؤدي إلى حرب أهلية، ومن ثم إلى التقسيم. وفي كلتا الحالتين يمكن أن تنفجر الأوضاع متجاوزة ما يمكن أن نتوقعه أو نتصوره في اللحظة الراهنة. فالحرب الباردة «الجديدة»، التي نشهد معالمها اليوم، قد تتحول إلى حرب ساخنة مباشرة أو بالوكالة. ويبدو أن الروس والأميركان يعلمون ذلك جيداً، ويستعدون له عبر «استعراض العضلات»، وعبر «لوم» بعضهما البعض على زيادة حدة التوتر حول أوكرانيا. كلاهما ينتظر «تقسيم أوكرانيا»، بالرغم من إعلان تمسكهما بوحدة أراضيها. فهل استعدت واشنطن وموسكو لمثل هذا التطور الخطير؟
هاني شادي – صحيفة السفير اللبنانية