أفريقيا: حلف دول الساحل ومعالم هندسة أمنية إقليمية جديدة
موقع قناة الميادين-
حسام حمزة:
حلف دول الساحل يتّجه نحو التعامل مع معطى أمني صعب جداً وآيل إلى التفاقم وإلى مواجهة مباشرة مع فرنسا.
لا تنبئ التفاعلات الأمنية في إقليم الساحل الأفريقي بقرب العودة إلى السكون النسبي الذي كانت تضمنه المعادلة التقليدية لتقسيم النفوذ. خلاف هذا، تشي توجّهات دول المنطقة وقواعد توافقاتها الجديدة بأنّ أوان المراجعات حلّ، وأنّ كسر المعادلات الجيوسياسية القديمة وتغيير المقاربات باتا هدفاً معلناً لاستراتيجيتها في الحاضر والمستقبل، يجري العمل الدؤوب من أجل تحقيقه.
ذلك تحديداً ما يؤكد “حلف دول الساحل” أن الإقليم ماضٍ نحوه، وأنّ الإفادة من فرصة المخاض القائم في المنظومة الدولية وانتهازها هما ما تطمح إليه مالي والنيجر وبوركينا فاسو في سبيل التخلّص من القيود التي كبلتها بها فرنسا منذ استقلالها. في هذا السياق، يأتي إعلان الرئيس الفرنسي السحب التدريجي للجنود الفرنسيين من النيجر ليثبت منحى التغيّر في نسب التأثير الخاصة بكل فاعل من فواعل المنظومة الأمنية الساحلية الذي تسير إليه المنطقة.
ميثاق ليبتاكو – غورما: مأسسة الأمن والدفاع الجماعيين
فيما يُعَدّ مأسسة للتضامن القوي، أمنياً ودفاعياً، الذي أبانوا عنه في غضون أزمة النيجر الأخيرة، وعملاً بمبدأ حق الدول في الدفاع الشرعي عن نفسها فردياً أو جماعياً مثلما ورد في ديباجة الميثاق، وقع كل من النقيب إبراهيم تراوري والعقيد الهاشمي غويتا والجنرال عبد الرحمن تياني “ميثاق ليبتاكو – غورما” المؤسّس لـ”حلف دول الساحل” بين كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر في 16 أيلول/سبتمبر 2023، والذي وضع له هدف “إرساء هندسة دفاعية جماعية ومساعدة متبادلة بين الأطراف المتعاقدة”.
ويرى المطلع على مضامين المادتين الرابعة والخامسة من الميثاق تعبيراً صريحاً عن الشواغل والهواجس الأمنية للدول للثلاث، والتي تتمحور أساساً حول الإرهاب والجريمة المنظمة، والتمرّدات المسلحة، ناهيك بالأفعال التي قد تُلحق ضرراً بسيادة إحدى دول الحلف أو بالسلامة والوحدة لأراضيها، والتي قد تستوجب في بعض الحالات استخدام القوّة بنصّ المادة الخامسة من الميثاق.
أما المادة السادسة فأرست صراحة مبدأ الأمن الجماعي بين الدول الثلاث حين نصّت على “كل إضرار بالسيادة والسلامة لإقليم طرف أو أكثر من الأطراف المتعاقدة سيُعَدّ اعتداءً ضد الأطراف الأخرى يقتضي منها واجب المساعدة والإغاثة بطريقة فردية أو جماعية، بما فيها استخدام القوة المسلحة من أجل استعادة الأمن وضمانه ضمن الفضاء الذي يغطيه الحلف”.
ويلوح البعد الردعي للحلف من المادتين الخامسة والسادسة من الميثاق، واللتين جاءتا بصيغة تنطوي على رسالة إلى فرنسا وبعض دول المجموعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا، التي لوحت بعصا التدخل العسكري ضد النيجر لإعادة محمد بازوم إلى منصب الرئاسة في إثر الانقلاب عليه.
فبموجب المادتين، لن يجد الطرف المتدخّل نفسه في مواجهة جيش النيجر فقط، بل سيكون مضطراً إلى مواجهة جيوش دول الحلف الثلاث، كما سيكون مجبراً على خوض حربه في رقعة جغرافية تربو على مليونين ونصف مليون كلم2 هي حاصل مجموع الأقاليم الجغرافية لكل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، معطى من شأنه إحباط سيناريو تدخّل الإكواس عسكريا في النيجر، والذي قال عنه رئيس غينيا بيساو، عمر سيسوكو إمبالو، إنه “لا يزال مطروحاً على الطاولة”.
دوافع إنشاء الحلف
ما لا شكّ فيه أنّ التقاء مالي وبوركينا فاسو والنيجر في هدفي الهندسة الأمنية الإقليمية المشتركة، وردع الغرماء عبر توحيد قدراتها الدفاعية، شكّلا دافعين أساسيين إلى مأسسة التعاون الأمني بينها وبناء حلف عسكري يمنحها هامش مناورة أكبر على الصعيد الاستراتيجي وقدرة على مقاومة ضغوط فرنسا والإكواس وعقوباتهما التي تميل إلى الابتزاز في أحايين كثيرة.
والواقع أنّ وحدة الأهداف تعكس وحدة رؤى بين الدول الثلاث بشأن شكل الهندسة الأمنية المنشودة في المنطقة والتي نشأت بدورها عن تشابه في عقيدة حكامها الحاليين ومشروعهم السياسي المعلن.
بيد أن دائرة دوافع تشكيل حلف دول الساحل أوسع في نظرنا. إنها تتعدى إلى ذلك الطموح المشروع في التأسيس لمقاربات وحلول أمنية مستقلة، نابعة من داخل المنطقة، ومتحررة من فلسفة المقاربات الأمنية القديمة، التي كانت إما مستوردة وإما مفروضة من الخارج، تجسيداً لمشروع الانعتاق الذي يجري الإلحاح عليه في خطاب نيامي وباماكو وواغادوغو.
ذلك تحديداً ما ينطبق على الحلول القائمة على التدخل العسكري الأجنبي في المنطقة، وذلكم أيضاً هو حال “مجموعة 5 ساحل” (G5S)، والتي تبرز كترتيب أمني إقليمي أنشئ في الفترة التي كانت المنطقة خاضعة للنفوذ الفرنسي والذي بدأ يتفكك ويفقد حجة وجوده بالتزامن مع بدء موجات التمرد على معادلات فرنسا، ومنذ انسحاب مالي منه في 15 أيار/مايو 2022.
من هذا المنطلق، يمكن الحكم بأن واحداً من الدوافع التي أدت إلى إنشاء “حلف دول الساحل” هو الطموح الذي يحدو أطرافه إلى جعله ترتيباً أصيلاً في مواجهة الـ”G5S” المفروض من الخارج يجسد بصدق فكرة “حلول ساحلية للمشكلات الساحلية”، التي ما زالت إلى غاية الآن تطلعاً تنشده شعوب المنطقة.
وعكس “مجموعة 5 ساحل” التي أريد منها ولها تجذير مكانة فرنسا “الصديقة” في الإقليم، فإن حلف دول الساحل تأسس – عكس ذلك – على فكرة فرنسا “العدوة” و”الدخيلة” والواجب طردها كشرط أولي يقتضيه تحقيق كل انعتاق منشود. إن هذه الفكرة تحديداً هي برهان على الإدراك العميق الذي دفع دول الحلف إلى اعتناق الفكرة القائلة بلا جدوى التدخل العسكري، وكل الحلول التي تؤسس حلول أطراف أخرى محلّ دول المنطقة ومؤسساتها.
لا ريب في أن المضيّ قدماً نحو تشكيل الحلف وفتح باب توسيعه مثلما نص عليه ميثاق ليبتاكو – غورما في مادته الـ11 لم يكن ليتيّسر لولا الثقة المتبادلة التي تعززت أكثر منذ إعلان باماكو وواغادوغو رفضهما عقوبات الإكواس ضد نيامي نهاية تموز/يوليو المنصرم، ثم صدور الأوامر من رئيس “المجلس الوطني لحماية الوطن” في النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني، والتي سمح بموجبها للجيشين المالي والبوركينابي بالتدخل عسكرياً في إقليم النيجر في حال حدوث عدوان ضده. وبقدر ما تزخر هذه السلوكات بالثقة المتبادلة، التي تصبغ العلاقات بين دول الحلف، بقدر ما تعبر عن تناسق قيم نخبها الحاكمة وأفكارها في هذه الظرفية على الأقل.
مستقبل مثقل بالتحديات
في وقت لا يزال يشكل شبح العدوان العسكري هاجسا للنيجريين، شعباً وحكومة، وفي وقت يشتد الخناق عليهم بفعل عقوبات الإكواس ضدّهم، تواجه مالي بصفة شبه يومية موجات عنف شديدة في أقاليمها الشمالية، تقودها تنظيمات إرهابية بالتحالف مع بعض الحركات الانفصالية، وهو المعطى نفسه الذي تواجهه بوركينا فاسو، التي كاد يسقط فيها النقيب إبراهيم تراوري الأسبوع الماضي في إثر محاولة انقلاب فاشلة ضده قادها بعض قادة الجيش.
كلّ هذه المؤشرات، وغيرها، تخبرنا بأنّ حلف دول الساحل يتّجه نحو التعامل مع معطى أمني صعب جداً وآيل إلى التفاقم وإلى مواجهة مباشرة مع فرنسا، التي صارت الدول الثلاث توجّه إليها تهم التعامل المباشر مع التنظيمات الإرهابية وتحريضها وتسليحها وتمويلها.
في هذا السياق، تبرز المطالب المتكررة لدولة مالي لمجلس الأمن من أجل عقد اجتماع استثنائي تقدم خلاله أدلة قطعية على العلاقة المباشرة بين التنظيمات الإرهابية في الساحل وفرنسا، مطلب كلما أصرت عليه مالي قابلته فرنسا بالإصرار على رفضه.
بالمختصر، تنبئنا الحركيات السابقة بأن إقليم الساحل ماضٍ إلى اشتداد المواجهة بين حلف يطمح إلى ترسيخ وجوده وإثبات قدرته على النجاح في تحقيق أهدافه ضد دولة ترى نفوذها يتقهقر بالتدريج، فصار إفشال جهود دول الإقليم ومساعيها رهانها الأول، الذي تعمل على تحقيقه بكل ما هو ممكن.