أزمات مرتبطة بصراع الغرب من أجل الهيمنة
صحيفة البعث السورية-
عناية ناصر:
إن ما يحدث في قطاع غزة من وجهة نظر روسيا يشكّل مأساة كبيرة. والسبب في ذلك هو شلل الجهود الدولية في التوصل إلى حل للحرب الهمجية التي تشنّها إسرائيل ضد سكان غزة. وكان هذا الشلل نتيجة لتصرّفات الولايات المتحدة، وحلفائها من الدول الأوروبية، التي تشكّل الصراعات العنيفة في مختلف أنحاء العالم بالنسبة لها جزءاً من لعبة دبلوماسية كبرى.
والهدف من هذه اللعبة هو الحفاظ على هيمنة الغرب في الشؤون العالمية، أو على أقل تقدير، تأمين وضع أفضل بعد تدمير الهيمنة الكاملة من خلال التأثيرات التي لا رجعة فيها لتغيّر ميزان القوى على نطاق عالمي. لقد كان ثمن استراتيجية الغرب في الشرق الأوسط أو أوكرانيا هو عشرات الآلاف من الأرواح البشرية. ولذلك فإن التأثير المباشر لأزمة الشرق الأوسط في الأحداث في أوروبا الشرقية يتحدّد بمدى قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على الحفاظ على التوتر في عدة أجزاء من العالم في وقت واحد.
إن موقف روسيا ومصالحها فيما يتعلق بالأزمات المختلفة يتحدّد من خلال حقيقة أن روسيا قوة مكتفية ذاتياً اقتصادياً، وتتمتع بسخاء بالموارد الطبيعية ومستعدّة لتطوير علاقات تجارية واقتصادية مفتوحة مع العالم أجمع. ولهذا السبب، عند النظر إلى العالم من وجهة نظر موسكو، لا جدوى من مناقشة الصراعات الإقليمية من وجهة نظر المكاسب المادية.
كانت روسيا على مدى العامين الماضيين، تقف بمفردها تقريباً في مواجهة الضغوط الهائلة التي يمارسها الغرب برمّته، وضد العقوبات والحرب الاقتصادية التي تُشنّ ضدها. وعلى هذه الخلفية، أظهر الاقتصاد الروسي مرونة مقنعة وقدرة على ضمان زيادة الرفاهية المادية لمواطنيه. ووفقاً للتوقعات الجديدة لصندوق النقد الدولي، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في عام 2024 قد يصل إلى 2.6 بالمئة.
إن انفتاح العالم واستعداد العديد من الدول للتعاون من شأنه أن يوفّر القدرة على الوصول إلى السلع والخدمات التي أراد الغرب أن تظل بعيدة عن متناول روسيا، فالعلاقات الاقتصادية تتطوّر مع بلدان في آسيا، وفي مقدمتها الصين، وكذلك في إفريقيا وأميركا اللاتينية. على سبيل المثال، تجاوز حجم نقل البضائع من خلال طريق بحر الشمال في القطب الشمالي إلى 36 مليون طن في عام 2023. وسوف تدرس المزيد من الشركات العالمية إمكانية استخدام طريق بحر الشمال إذا استمرّت التوترات في البحر الأحمر نتيجة للإجراءات الأمريكية والأوروبية. وكانت شحنات الحاويات الكبيرة بين الأسواق الروسية والصينية على طول هذا الطريق قد بدأت في صيف عام 2023.
وفي الوقت نفسه تدرك روسيا التهديد الذي يتهدّد الأمن الدولي إذا ما تدهور الوضع حول غزة وفي البحر الأحمر. وتشاطر موسكو بكين مخاوفها التي ترتكز على إدراك أن مياه البحر الأحمر تشكّل ممراً دولياً مهمّاً لتجارة السلع والطاقة، وأن الهجمات على السفن في البحر الأحمر كانت نتيجة تصرّفات الولايات المتحدة وحلفائها، الذين يهاجمون الأراضي اليمنية ذات السيادة منذ عدة أسابيع.
إن الطريقة الوحيدة لوقف تفاقم الأزمة هي أن تقوم جميع الأطراف المشاركة في الحرب على غزة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة بأمانة.
عند الحديث عن العلاقة بين الأحداث الدرامية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، من الضروري أيضاً الأخذ بعين الاعتبار أساسها التاريخي والاستراتيجي. إن التصعيد في غزة وأزمة البحر الأحمر الناتجة عنه هو نتاج مجموعة ضخمة من التناقضات الإقليمية التي تراكمت على مدى العقود الأخيرة، وفي جوهرها يكمن عدم القدرة على تنفيذ قرار الأمم المتحدة بشأن وقف الحرب. علاوة على ذلك، فإن ميزان القوى برمّته في هذه المنطقة المهمّة من العالم قد تغيّر بعد التدخل الأمريكي في مصير العراق وسورية.
وأخيراً، يشكّل التصعيد في غزة والبحر الأحمر تهديداً خطيراً للاقتصاد العالمي، وقد تؤدّي النتيجة إلى صراع من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة برمّتها، التي تشكّل أهمية حيوية لإمدادات الطاقة في العالم. تعود جذور المواجهة العسكرية في أوكرانيا إلى سياسات ما بعد الحرب الباردة التي انتهجتها الولايات المتحدة وحلف الناتو، وكانت تصرّفاتهم، جنباً إلى جنب مع الميليشيات النازية في كييف، سبباً في خلق تهديدات لأمن روسيا. وفي كانون الأول 2021، عرضت موسكو على الغرب خطة شاملة لتحقيق الاستقرار في النظام الأمني الأوروبي، إلا أنه قوبل بالرفض. وبالمثل، تم رفض قرار مجلس الأمن رقم 2202 بتاريخ 17 شباط 2015، الذي يدعو إلى تنفيذ اتفاقيات مينسك من جميع الأطراف. وعلى هذا فإن الحل في أوكرانيا لا يتطلب حل عقدة معقدة من التناقضات الإقليمية التي تشارك فيها قوى عديدة.
وعلى النقيض من الوضع في الشرق الأوسط، فمن الممكن تحقيق السلام في أوكرانيا بسهولة إذا كان الغرب وكييف على استعداد للدخول في حوار مع روسيا، وهذا على وجه التحديد ما دعت إليه مقترحات السلام الصينية قبل عام واحد. ولكن حتى الآن لم يكن الغرب على استعداد للمشاركة في مثل هذا الحوار. لذلك، من وجهة نظر روسيا، فإن الرابط الرئيسي بين الأزمتين هو تورّط الولايات المتحدة وحلفائها، سواء بشكل مباشر أم من خلال مرؤوسيهم. وحتى الآن، ليس من المتوقع أن تكون واشنطن مستعدّة للسلام في أي وقت قريب. ومن المؤسف أن ثمن فشل الغرب في إدراك حقيقة مفادها أن هناك بالنسبة للعالم أشياء أكثر من مصالحه ما زال يدفعه أرواح العديد من الناس المسالمين والآمنين.