أبعد من الإساءة إلى الإسلام والرسول
صحيفة البناء اللبنانية ـ
عصام نعمان:
قيل الكثير في ما يُراد من وراء الإساءة الى الإسلام والرسول (ص). لكن قيل القليل في مَن يقف وراء الإساءة. قبل محاولة تفسير هذه الظاهرة، يقتضي توضيح بعض الواقعات والملابسات المحيطة بالفيلم المشبوه، «براءة المسلمين».
عُرض الفيلم لأول مرة، بحسب صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية، مطلعَ هذا العام في صالة اميركية. لم يحظَ الفيلم بأي اهتمام، بادئ الأمر، إذ كانت الصالة شبه خالية، كما لم يحظَ بأي تنويه اوتسفيه في الصحافة طيلة أشهر.
في مطلع الشهر الجاري، وُضع مقطع من الفيلم لا تتجاوز مدته 15 دقيقة على موقع «يوتيوب» مترجماً الى العربية. خلال يومين اندفعت مئات الآف الجماهير في غالبية عواصم العرب، من المغرب الى المشرق، في موجات غضب عارم للاحتجاج والإدانة ما تسبّب بتخريب او حرق سفارات للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ومقتل السفير الاميركي في ليبيا وثلاثة من موظفي السفارة، ومقتل وجرح متظاهرين ومحتجين اثناء التظاهرات التي جابت شوارع القاهرة وبنغازي والخرطوم وصنعاء وبغداد وتونس.
توقيت وضع الفيلم على موقع «يوتيوب» كان لافتاً وذا دلالة. فقد تمّ قبل بضعة ايام من زيارة مقررة للبابا بنيديكتوس السادس عشر الى لبنان ايام 14 و15 و16 الشهر الجاري. كان لزيارة البابا هدف مركزي: توقيع وثيقة «الإرشاد الرسولي» في عاصمة لبنان وتوجيه رسالة دعم معنوي من على منبرها الى ملايين المسيحيين في المشرق العربي الذين يعانون صنوفاً من التمييز والتضييق والتهجير، ولا سيما في مصر والعراق وسورية.
مع نشْر الفيلم في «يوتيوب» تكشّفت حقائق جديدة، منها ان مُخرجه يهودي اميركي، ومساعده قس قبطي اميركي من اصل مصري، ومموليه جماعة من المثرين اليهود الاميركيين، وان منتج الفيلم ضلّل الممثلة سيندي لي غارسيا من حيث نياته والغرض من الفيلم ما حملها على إقامة الدعوى عليه. هذه الحقائق صبّت مزيداً من الزيت على نيران الغضب المندلعة من مشاعر المسلمين وعروقهم وأعصابهم في أربع جهات الأرض.
لم تكن التظاهرات والاحتجاجات قد انحسرت في شتى انحاء عالم الإسلام عندما ضرب اعداء الإسلام والمسلمين ومن يقف وراءهم ضربتهم الثانية. فقد اقدمت مجلة «شارلي ايبدو» الفرنسية الساخرة على نشر رسوم كاركاتورية مسيئة الى الرسول(ص). الرد جاء سريعاً، شاملاً وعنيفاً في «جمعة غضب» جديدة تفجّرت في شتى عواصم العرب والمسلمين وحواضرهم. وكانت الحكومة الفرنسية (كما الادارة الاميركية) قد تحسّبت لمفاعيل جريمة «شارلي ايبدو» النكراء فاستبقت ردود الفعل بإقفال سفاراتها وقتصلياتها ومراكزها الثقافية ومدارسها في نحو 20 بلداً اسلامياً، فيما نصحت الخارجية الأميركية الرعايا الأميركيين بإرجاء رحلاتهم غير الضرورية الى باكستان وأندونيسيا وبلدان إسلامية أخرى.
اذ تحوّلت الإساءة الى الإسلام والرسول(ص) ازمةً عالمية بامتياز، تدخّل الامين العام للامم المتحدة بان كي مون ليعلن ان الفيلم المسيء الى الإسلام «فاضح ومخزٍ». اكثر من ذلك، قال «إن حرية التعبير حق ثابت تجب حمايته شرط ألاّ يصطدم بمعتقدات الآخر وقيمه، وحين يستخدم البعض حرية التعبير هذه لاستفزاز أو إذلال أشخاص آخرين بقيمهم ومعتقداتهم، حينئذٍ لا يمكن حمايتها بالطريقة نفسها».
موقف الأمين العام للمنظمة الدولية واضح وهادف، إلاّ انه لم يقترن بأي تدبير عملي زاجر. وحده بين المسؤولين، دعا وزير الخارجية الايطالي جوليو تيرزي الحكومات الى اقفال المواقع الإلكترونية التي تحضّ على الكراهية.
مَن يقف وراء هذه الإساءة المتعمدة والمتكررة للإسلام والرسول (ص) ؟
باستثناء منتجي الإساءة من مخرجين ورسامين وممولين وقساوسة متعصبين، لم يتوصل المهتمّون بمتابعة حملة الإساءة وفصولها ومظاهرها، بعد، الى تحديد الجهة او الجهات، الرسمية اوالخاصة، التي تقف وراءها. اساساً، لم يُفتح تحقيق امني او قضائي في اي دولة في أوروبا او أميركا من اجل تحديد مَن يقف وراء الحملة من مخططين ومتواطئين وفاعلين وشركاء ومحرضين.
ليس من اشتباه او اتهام رسمي، إذاً، موجّه الى احد محدد يقف وراء هذه الحملة. جلّ ما صدر وظهر تكهنات وتفسيرات بشأن الدوافع الكامنة وراء الحملة، ابرزها التعصب الديني، والتمييز العنصري، والكراهية السياسية. غير ان مسؤولين وناشطين متابعين لقضايا حقوق الإنسان في اوروبا، وهيئات مؤيدة للمقاومة العربية ضد الصهيونية، وقادة روحيين وسياسيين مناهضين لسياسة الغرب الاطلسي في مصر والعراق وسورية ولبنان كشفوا في مناسبات سياسية رافقت زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر الى لبنان وأعقبتها ان ثمة تياراً اهلياً ناشطاً في اوروبا، ولاسيما في فرنسا والمانيا والدانمارك، وفي اميركا، خاصة في الولايات المتحدة وكندا، له اغراض أبعد من مجرد الإساءة الى الإسلام والمسلمين، وانه يحظى بدعم غير مباشر من قيادات ومؤسسات رسمية في تلك الدول.
يمكن توضيح أغراض قادة ونشطاء هذا التيار العنصري على النحو الآتي:
ثمة قلق في دول اوروبية عدّة من تناقص مطّرد في المواليد وبالتالي في عدد السكان «الأصليين»، يقابله تزايد مطّرد في عدد الوافدين والمهاجرين الاجانب، وخصوصاً من دول افريقيا وآسيا، ومن الشبان والشابات المسلمين والمسلمات من ذوي البشرة السمراء. الى ذلك، تَضيق اوساط اوروبية كثيرة بتزايد اعداد المواطنين المسلمين، اي حَمَلَة جنسيات دول اوروبية، الذين بات تعدادهم يفوق بمجموعه 35 مليوناً. وعليه، يقاوم نشطاء هذا التيار العنصري ظاهرة تكاثر المسلمين في اوروبا بمواقف ثلاثة:
اولها، معارضة ضم تركيا بملايينها الثمانين المسلمين الى الاتحاد الاوروبي.
ثانيها، كبح تدفق المهاجرين، لاسيما المسلمين، من افريقيا وآسيا، والتشدد في اجراءات التجنيس ومنح الجنسية للمهاجرين من البلدان الإسلامية.
ثالثها، افتعال صراعات وفِتن طائفية في الدول العربية ذات المجتمعات المسيحية كثيفة العدد كمصر والعراق وسورية ولبنان من جهة، وتسهيل معاملات اجتذاب المسيحيين العرب الى دول اوروبا ومنحهم جنسياتها من جهة اخرى.
ثمة ما يشبه الإجماع لدى قادة ونشطاء حقوق الإنسان ومقاومي العنصرية في الوطن العربي وأوروبا وأميركا على أن فيلم «براءة المسلمين» المشبوه هو مجرد حلقة في مخطط كبير يرمي الى افتعال فتنة دموية بين المسلمين والمسيحيين، ولاسيما بين المسلمين والأقباط في مصر، ترهيباً للمسيحيين وترغيباً لهم لمغادرة اوطانهم والاتجاه الى اوروبا واميركا والإقامة فيهما واكتساب جنسيات دولهما.
في هذا المجال، يشير نشطاء حقوق الإنسان ومناهضو العنصرية الى العراق كمثال وعِبرَة. فقد تسبّب الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين وحملة التمييز والاضطهاد التي مارسها بعض التنظيمات الإرهابية المشبوهة والمدسوسة ضد المسيحيين العراقيين بتهجير عشرات الآلاف منهم. ويبدو أن العنصريين الأوروبيين والأميركيين يركّزون حملتهم، في هذه الآونة، على أقباط مصر ومسيحيي سورية لاجتذاب المحبطين والمضطهدين في صفوفهم الى دول أوروبية حريصة على سد النقص المطّرد في سكانهـا بمجاميع من المهاجرين غير المسلمين، ولاسيما المسيحيين.